الحب من النظرة الأخيرة

10 يوليو 2022
+ الخط -

مثل رجل على أهبة الانتحار، حانت منه التفاتة معاكسة تزامنت مع قفزته عن شاهق، فرأى العالم جميلاً، على غير ما كان عليه قبل هنيهة، أو نحو شخصٍ على أهبة وداع امرأةٍ لم يحبّها، بعد أن استنفد كل محاولاته، فقرّر أن يصارحها بالحقيقة، غير أن كل شيء تبدّل لحظة الوداع، فرآها بعيونٍ أخرى أحالته إلى عاشق مفتون .. ذلك ما يقتضي منا إعادة النظر في النهايات التي نمقُتها، مقابل البدايات التي نحتفي بها دائمًا.

وللنظرة الأخيرة فلسفتها التي تختلط بمشاعر خاصّة، تنطوي على الوحدة والعزلة، على غرار طقوس الموت التي تسبق دفن الجثمان، فيصطفّ المشيعون طابورًا لإلقاء "النظرة الأخيرة" على الميت، بمهابة وقار، ويدور حديثٌ صامتٌ بين المرسل والمستقبل، ولربما تتغيّر مشاعر صاحب النظرة وتتبدّل في تلك اللحظة، ليصبح البغض حبًّا. ربما لهذا السبب، تحديدًا، كان هذا الطقس عرفًا، لدى كثير من الأقوام والديانات، كي يغادر الميت الدنيا بسلام.

شخصيًّا، أتشبث بفلسفة "النظرة الأخيرة" التي تلحّ عليّ في هذه المرحلة القوميّة الرديئة؛ سيما وقد بدأت تراودني رغبة الهجرة من الوطن العربيّ برمّته. ولذلك بواعث شتّى، فقد غدوت مزعزع الثقة بمستقبل الأمة، مع انقلاب المعايير، وانكسار المبادئ التي شببنا وشبنا عليها، فثمّة من كسر التابوات والطواطم التي كانت محرّمات بالأمس، وفي مقدمها التطبيع مع إسرائيل، وبزمن قياسيّ. وبعضهم لم يقف عند حدود التطبيع، بل صار يفكّر في الأحلاف العسكرية والاقتصادية معها، وسفراؤنا يتغزّلون بـ"الشعب الإسرائيلي" بكلّ صلافة.

أبعد من ذلك، يتزامن الغزل والتحالف، أحيانًا، مع عدوانٍ صهيونيٍّ على غزّة أو دمشق، فترى سياسيّا إسرائيليًّا يزور عاصمة عربية في الوقت الذي يضرب فيه عسكره عاصمة عربية أخرى، ولا يحرّك "المستقبِل" ساكنًا، أو يبدي أي نوعٍ من الاحتجاج أو حتى العتب للزائر، ولو من باب تأجيل الضربة، على الأقل، إلى حين انتهاء الزيارة، بل يصل الأمر إلى حدّ تدشين مشاريع اقتصادية مشتركة بالمليارات، وافتتاح مراكز "سلام" على غرار "البيت الإبراهيمي" في أبوظبي.

وقبل التطبيع، فقدتُ الأمل بالوحدة العربية، أو بأقل شكلٍ من أشكال التنسيق حتى، بعد أن هبط سقف الطموح إلى أسفل العتبات، وكذا بالنسبة إلى حلم تحرير فلسطين، بعد أن تسلّمت السلطة الفلسطينية لواء الدفاع عن إسرائيل وأمنها ضدّ بني جلدتها.

وكان لتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في الوطن العربي أثره، أيضًا، على التفكير بالهجرة، سيّما بعد تبدّد الآمال بأدنى تغيير جذري على أوضاع الحريات والحقوق، وإخفاق ثورات الربيع، وزيادة نسب البطالة ورقع الفقر في بلادٍ يشتري فيها بعضُهم نمرة سيارة بنصف مليون دولار، وآخرون يبتاعون أنديةً أوروبية من الدرجة الأولى بمليارات الدولارات، بينما يموت أمام أعينهم آلاف العرب جوعًا أو غرقًا في مراكب الهجرة، أو جرّاء الحروب الأهلية التي افتعلتها ثرواتهم ومؤامراتهم، وربما يسوّغون للتاريخ غدًا بأنهم أنفقوا مساعداتٍ بالمليارات على أشقائهم العرب، لكن من دون أن يوضحوا أنها كانت من أجل التدمير وإعادة الأمة قرونًا إلى الوراء.

من العبث حصر مسوّغات الهجرة في عجالةٍ سريعة، غير أني متمسّك بـ"النظرة الأخيرة" على ضريح الوطن العربيّ قبل أن أغادره، على الرغم من أنني أعاتبُ ذاتي وأقرّعها، وأسألها ما جدوى النظرة إن استهدفت رفاتًا، لا جسدًا طازجًا حديث الموت، فأنت ستقفُ أمام أشلاء مزّقتها الحروب البينية والحدود القُطرية، وأمراض أهون منها الطاعون والكوليرا، فهل تطمح إلى "حبّ في زمن الكوليرا"، مثلًا؟ إلام ستنظر، وعلى ماذا تراهن في هذه النظرة؟ أتُراك ستحبّ هذه الجغرافيا التي جوّعتك وظمّأتك وهشّمت أحلامك كلها؟ وهل في وسعك النظر إلى جثمان حلّله الدود الصهيوني، وأنانية الحكام، وخنوع الشعوب؟

ليس في مقدوري تفسير دوافع هذا الرهان.. لكن شيئًا غامضًا يلحّ علي بالتمسّك بالنظرة الأخيرة، ربما بحثًا عن مزيد من البغض والحقد على حكّامٍ أوصلونا إلى هذا الدرك من التخلّف والمهانة؛ وإدراكًا بأن بعض البغض كالحب، يعيد المرء إلى الوراء، لا للعشق بل للثأر.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.