الحب كده
تختصر أم كلثوم المسألة، فتغنّي "الحب كده/ وصال ودلال وخصام ودموع ورضا". وليت الأمر بهذه البساطة، فقد ذهب أكثر من اتجاه في علم النفس إلى أنّ الحب "مش كده أبداً" إذ إنّ هناك عمراً افتراضياً لمشاعر الحب، لا يتجاوز في حدّه الأعلى ثلاث سنوات في أحسن الأحوال، يغمر الشخص في أثنائها فيضٌ من المشاعر العذبة، مزيج غامض من السعادة والشغف واللهفة والتوق والتعلق والارتباط النفسي الوثيق بالحبيب. وينشط في تلك المرحلة هرمون الحب، المعروف طبياً باسم "الأكسيتوستين" الذي ينتج في منطقة تحت المهاد في الدماغ. ثم ينتقل من هناك إلى الغدّة النخامية التي تفرزه إلى الجسم. يصاب الواحد منا بهذه الحالة النادرة الثمينة، عندما يشعر بانجذابٍ لشخص ما، فتزداد مستويات هرمونات السعادة في الجسم، ما يشيع تأثيراً عجيباً، يزوّده بدفق من مشاعر إيجابية مختلفة ومختلطة، ما يؤدي إلى الاسترخاء والثقة والتوازن النفسي، مع تقليل الشعور بالتوتر والقلق.
وقد ظهرت عدة استخدامات علاجية لهرمون الحب في حالات مرضية شائعة، مثل التوحد والاكتئاب والفوبيا، حتى أنّه يعالج القولون العصبي، كما يعزّز الروابط الاجتماعية والعلاقات الأسرية، لكنّ المحزن والمخيف في الآن ذاته أنّ هذا الفيض من المشاعر المتدفقة سرعان ما يخبو، لأنّ الحب، بحسب العلم، ليس أكثر من مادة كيميائية تتدفق داخل الدماغ، ومن أهم صفاتها أنّها سريعة الزوال. من هنا، تصبح عبارة مثل "سأظل أحبك إلى الأبد" بلا معنى، وتنطوي على تضليلٍ كثير، لأنّها تخالف الحقائق العلمية الثابتة، غير أنّ العشاق يرفضون هذا التعريف البارد المجرّد الذي يُجهز على أحلامهم وتوقعاتهم، ويقضي، في حال تصديقهم، على فرصتهم في تذوق عذوبة الرومانسية، فالحبّ بالنسبة لهم جارفٌ، لا يمكن مقاومته. كما أنّه يتسم بالاندفاع والتحكّم، وهو لغز سحري غامض يبعث الدفء في القلوب، ويجعل للحياة معنى ومضموناً نسعى إلى التشبث به، ولو كان وهماً، حتى الرمق الأخير، سلاحاً وحيداً نشهره في مواجهة القحط والجفاف والفراغ النفسي القاتل في حالة الحرمان من منحة الوقوع في الحب الذي يذهب إليه العاشق، مجازفاً غير عابئ بتنظيرات أهل العلم، لا تعنيه سوى لحظة العشق المجنونة المكتظة بالفرح الخالص، يتوق إلى إحكام قبضته عليها ملاذاً يحمي روحه من صقيع الوحدة إلى حين.
قال رجل أصيب بالعشق إنّه كان يشعر بأنه الأكثر حظاً وسعادة وقدرة على الأمل والعطاء والإنجاز، بسبب وجود محبوبته قريبةً تشاركه أيامه، وتضفي عليها الألق والبهجة، لكنّ شيئاً ما بينهما تغيّر في مرحلة ما، فتسلل الملل والرتابة والنمطية والتكرار إلى علاقتهما التي أخذت بالتراجع تدريجياً، حتى فقدا الاهتمام كلياً، ولم يعد بينهما ما يمكن قوله. وفي واقع الأمر، يبدو هذا المصير محتوماً في معظم العلاقات العاطفية. نشاهده باستمرار في الحياة وفي الروايات والأفلام، لكنّ أحداً لا يأخذ العبرة أو يتردد في تكرار الإحساس بالمشاعر نفسها، حين تسنح فرصة جديدة.
يقولون في المأثور الشعبي إنّ الحب أعمى. تتضمّن هذه المقولة الكثير من الحقيقة، فحين يقع أحدنا بالحب ينقلب حاله رأساً على عقب. يتمسّك بالحالة، ويرجئ التفكير المنطقي، ويتجاهل، عن سابق إرادة وتصميم، حقيقة أنّ هذه المشاعر الجياشة آيلة إلى انطفاء لا ريب قيه. يغفر لنفسه الحماقات السابقة التي اقترفها تحت ذريعة الحب، ويعاود الكرّة. يضع جانباً استنتاجات العلم، ويهيم وجداً، حين تردّد الستّ: "حبيبي لما يوعدني/ تبات الدنيا ضحكالي/ ولما وصله يسعدني بفكر في اللي يجراللي/ ينسّيني الوجود كله/ ولا يخطر على بالي"... لأنّها (مش عايزة كلام) ببساطة الحب كده.