"الحبّ كده"

09 سبتمبر 2023

(لونا صفوان)

+ الخط -

نادرا ما خلت أغنيةٌ عربيةٌ من الشكوى من المحبّ، ومن مكابدات الغرام، ولواعج الهيام والشوق والصد والهجران والفقد، والتوسل إلى الحبيب الهاجر والمفارق كي يعود؛ نادرا أيضا ما خلت من التذلّل والتعطّف والانسحاق الكامل أمام الحبيب، ومن اعتبار الحب والغرام نوعا من العلل التي لا أمل بالشفاء منها، علّة قد تؤدّي إلى الموت، لكنه الموت الوحيد الذي يحبّه العاشق العربي الذي لن يتوانى عن تقديم روحه إن كان هذا يرضي بعض الغرور لدى معشوقه. هكذا يصبح الموت عشقا أسمى معاني الغرام الذي تقدّمه الأغنية العربية بجملة موسيقية طويلة، وإيقاع طربي يحتمل الإعادة عدّة مرّات، تأكيدا لا ينتهي على أهمية التضحية في سبيل الحب، وعلى عرض حال العاشق وما يعانيه من الذلّ والشكوى والاستمتاع بحالة الجوى والوله، حتى لتصبح الحياة بلا قيمة ولا معنى، إن خلت من عذاب الحب ومكابداته، ومن لوْعة العشق وروعته؛ فكلما ازداد ألم العشق شعر العاشق بالسعادة، وكلما تمنّع الحبيب ازداد العاشق ولها ورغبة به، وكلما بالغ الحبيب في صدّه عظم شأنه في عين العاشق.

للحبّ في اللغة العربية 14 درجة، تبدأ بالهوى وتنتهي بالهيام، وبينهما مراحل عديدة تكاد تقترب من الجنون عشقا وحبّا، وكلها استثمرتها الأغنية العربية العاطفية، سواء بذكر مفردات الدرجات بالتحديد أو بالتعبير عن كلٍّ منها ضمن شرحٍ لحالة العاشق. وفي الحقيقة، يتناسب هذا النوع من الحبّ الذي تقدّمه الأغنية مع الشخصية العربية العاطفية التي يندُر أن تكون عقلانية في التعامل مع الحبيب، سواء أكان الحبيب معشوقا أم أحد أفراد العائلة أم الأصدقاء أم حتى الزعيم السياسي. نتعامل مع هذا الآخر مدفوعين بما تمليه علينا عاطفتنا التي غالبا ما تكون مَرضيةً، بسبب تاريخٍ من التشوّه العاطفي والاجتماعي. في المقابل، نصف العقلانيين بالقسوة وتبلّد المشاعر، من دون أن ننتبه إلى المازوشية التي فينا، والتي تتجلّى تماما في العلاقة مع الآخر الحبيب.

بدأتُ، في الفترة الماضية، أنتبه إلى أن الأغنية العربية الحالية تسلك المسلك المعاكس تماما للكلاسيكية، فبدل تعداد مواصفات الحبيب وشمائله، أصبحنا نسمع في الأغاني عن مساوئ الحبيب، سواء في سلوكه أو حتى في شكله. وبدلا من التلذّذ بعذاب الحبّ، صارت هناك دعوة إلى التخلي المباشر عمّن يفكّر، ولو لمح خاطر بالابتعاد والهجران. وهناك تهديد مبطّن وصريح بأن المحبّ يمكنه أن يستبدل حبيبه بسهولة، فهو لن يمنحه فرصة أخرى، ولن يغفر له ولن يسامحه ولن يقضي ربع ساعة في التفكير به، ذلك أن الحياة لا تستحقّ ذلك كله، ومحبة المرء نفسه هي الأهم والأجدى، حتى لو استدعى ذلك الانتقام والفضح والشتيمة. وفي الحقيقة، تشبه بعض الأغاني العربية الجديدة وصلة ردح كاملة، بل ربما هي موضة في الأغنية عموما. نتذكّر هنا أغنية المطربة العالمية شاكيرا عن صديقها السابق جيرار بيكيه بعد خيانته لها.

تشبه الأغنية الحديثة هذا العصر، حيث سهّلت وسائل التواصل فضح من يخطئ في حقّ أحد، وحيث ساعدت أيضا على تشكّل مركزية فردية بدلا من التشاركية التي تعلي من شأن التسامح. تصبح هذه المركزية، مع الوقت، أقرب إلى التوحّد والعزلة والعيش في عالم افتراضي لا يتيح مشاركة بشرية ملموسة فيه. وبالتالي، يتخلّى عن كل ما تستلزمه التشاركية من التسامح ومنح فرص إضافية وتفهّم وغفران. وليس هذا شأنا خاصا بالعشق فقط، بل يتعدّاه إلى كل أنواع العلاقات الإنسانية.

أجدني أكثر ميلا إلى النوع الأول من الأغنية العربية، وإلى النوع القديم من الحب، فأنا ذات شخصية درامية سينتيمنتالية، ورومانسية. لست موضوعية في ما يخصّ المقربين مني. أنا غالبا منحازة إلى الحد الأقصى في علاقتي بهم، لهذا أعتبر أن الأغنية العربية، في كلاسيكياتها العظيمة، تعبّر عن شخصيّتي العاطفية، رغم كل المبالغات التي فيها. رغم أن المبالغة في التعبير عن شدّة الحب تُبعده عن أن يكون موجودا خارج الأغنية، ذلك أنه إن وجد سوف يفتك بصاحبه ويدمّره، لكنني شخصيا حين أسمعه في أغنية ما أشعر كما لو أنه يملأ مساحة فارغة في روحي، ولو مؤقّتا. تماما كما يحدُث حين أقرأ رواية عن قصة حبٍّ كبيرة، أو أرى فيلما سينمائيا عظيما. لكن أليس هذا دور الفن: أن يسدّ الفراغات القاتلة داخل أرواحنا؟

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.