"الحارة" وعفّة المدينة الفاضلة

16 يناير 2023
+ الخط -

ما إن تسنّى للجمهور الأردني مشاهدة فيلم "الحارة" الأردني، حتى بدأ نقاش واسع بشأنه على مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام المختلفة، وكذلك في المجالس الخاصة، ودبّ خلاف عميق بين متحمّس للفيلم ورافض بالمطلق لمضمونه، وإن كانت نسبة المعجبين به قليلة، قياسا إلى عدد الساخطين. الفيلم المثير للجدل من تأليف باسل غندور وإخراجه، ومشاركة نخبة متميزة من المبدعين الأردنيين، مثل نادرة عمران ومنذر رياحنة، ومن الممثلين الشباب عماد عزمي وميساء عبد الهادي ونادرة خالد. وقد شارك في عدة مهرجات سينمائية، مثل روتردام ولوكارنو ولندن والبحر الأحمر (في السعودية)، وحصد جوائز عالمية، مثل جائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان أنوناي في فرنسا، وحظى بإشاداتٍ في مقالات نقديه متخصّصة، وتصدّر قائمة الأعلى مشاهدة على شبكة نتفليكس.
كل هذا الإنجاز الضخم لم يشفع لصنّاع العمل الذين تعرّضوا لهجوم شديد اللهجة. لم يتوقف المهاجمون عند تقنيات الإخراج المحترف أو جماليات التصوير السينمائي المتقدّم أو الحوار الواقعي الممسوك أو أداء طاقم الممثلين الباهر، ولم يلتفتوا إلى أن الفيلم مصنّف فوق 18.  تجاهلوا ذلك كله، وتوقفوا عند تفصيلة الألفاظ النابية التي استخدمتها بعض الشخصيات في سياق الأحداث التي تدور في حارة شعبية من مناطق شرق عمّان، وتناول شريحة معينة تفشّت فيها مظاهر العنف والبلطجة والإدمان والسطو المسلح والدعارة والتفكّك الأسري والفقر والقهر والانحلال الأخلاقي. 
يسرد "الحارة" قصة حب بين شاب وفتاة وسط معارضة الأهل الذين يرضخون لابتزاز إثر تصوير مشهد حميم للحبيبين، فتستعين الأم، وهي صاحبة صالون تجميل، بزعيم عصابة، كي يخلصها من تلك الورطة، مقابل أن تعتني بجمال فتياته اللواتي يسرّحهن في النوادي الليلية، ما يدفع الفتاة إلى الهرب مع حبيبها، غير أنه يتعرض للقتل في النهاية. ذهب المعارضون إلى أن الفيلم لا يمثل قيم المجتمع الأردني المحافظ، ويشوّه صورة الأردن. ولو أمضى هؤلاء يوما واحدا في محكمة الجنايات الكبرى في عمّان، لشاهدوا بأم العين من الفظائع ما يشيب لها الولدان.
ما قام به صنّاع الفيلم عرض مجتزأ لعالم الجريمة في المجتمع الأردني، الأفلاطوني الطاهر العفيف. هذا إذا ما شئنا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، ونمعن في خداعها بأن كل شيء على ما يُرام، من البديهي أن مؤلف النص لم يقصد تعميم تلك الظواهر القبيحة على المجتمع بأسره، أو وصم منطقة بعينها، فالمناطق الشعبية، رغم الفقر وقلة الحيلة، ما زالت تزخر بقيم الخير والمحبّة والتضامن، في علاقات الجوار التي تسودها الألفة، وبالنماذج الإنسانية الطيبة والنزيهة النبيلة المحترمة التي لا تتخلّى عن قيمها، مهما صعبت سبل العيش، وهذا ما أغفل الفيلم الإضاءة حوله بشكل كاف. 
وهناك من أخذ على الفيلم أنه اكتفى بعرض المشكلات من دون التوصل إلى حلول للحدّ منها، وهذه ليست وظيفة الفن الذي لا يتبنى مهام وعظية مباشرة، ولا يدّعي حلولا سحرية لأمراض اجتماعية مستعصية، بل إن وظيفته تعرية الواقع وإدانة قسوته، وطرح الأسئلة الصعبة التي تؤدّي، في النتيجة، إلى زيادة الوعي بين صفوف الشباب ما يجنّبهم مغبّة الانحراف. 
ينتمي "الحارة" إلى سينما الواقعية الخشنة التي تعتمد على إحداث الصدمة لدى المتلقي، ولا يخلو من بعض الهنات. وفي جميع الأحوال، على المتلقي أن يتحلّى بالموضوعية وسعة الإدراك وعمق الفهم والتخلص من الحساسية المفرطة، كي يتذوّق عملا فنيا بهذا المستوى من الصدق الفني والأداء الرائع. ولكي يفرح بهذا المنجز الاستثنائي الذي يبشّر بنهضة سينمائية أردنية طال انتظارها.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.