الجهل يفيد في بناء الأمم
سأطرح على حضراتكم سؤالاً أظنّه ساذجاً: هل يمكن أن تنجح ثورة، أو تتطوّر بلاد، من دون العلم؟ ثم أجعل السؤال أكثرَ سذاجة: هل يفيد الجهل في بناء الأمم؟ سئلت الباحثة الأميركية في تاريخ العصور الكلاسيكية، سوزان باورز، عن الأسباب التي دفعتها إلى اختيار مهنة التعليم في مطلع حياتها، فقالت: لأنني أحب أن أدافع عن المظلومين. سألوها: ومَن هم المظلومون؟ قالت: الجَهَلة.
تتخذ الدعوة إلى العلم، في بعض الأحيان، أسلوباً استفزازياً، إذ يلوم المتعلمُ المتنورُ غيرَ المتعلمين من أبناء وطنه، ويقرّعهم بمحبة، على طريقة الزعيم الوطني السوري، فخري البارودي (1877- 1966)، الذي سافر إلى فرنسا لتلقي العلم، خلسةً عن والده، وعندما أُرغم على قطع دراسته والعودة إلى دمشق، شرع يكتب على الجدران: تعلمْ يا فتى فالجهلُ عار.. كان اعتبارُ الجهل عاراً، في دمشق مطلع القرن العشرين، أمراً غريباً، وشجاعاً، لأن المجتمع آنذاك كان يحصُر "العار" بعِرْض النساء، ويعتبر تلقي العلم ترفاً يختصّ به أبناء الأثرياء. أما الفن فكان الناس ينقسمون حياله بين كارهين له ومؤيدين يدفعهم الفضول للفرجة عليه، مثلما كانوا يذهبون، خلسة، للفرجة على مسرحيات أبي خليل القباني.
لدينا مثالٌ لا يقل سطوعاً عن مثال فخري البارودي. إبراهيم هنانو (1869- 1933)، من قرية كفرتخاريم، طلب من والده، سليمان آغا، نقوداً ليسافر إلى الأستانة (إسطنبول)، ويتعلم. لم يوافق والده، لأنه لم يشأ أن يبتعد عنه ابنُه، سنده. أخذ إبراهيم، بحسب ما تروي مصادر، أربعةَ آلاف ليرة ذهبية من غلّة أملاك والده، وسافر، ودرس في الجامعة السلطانية، وتخرّج، وتسلم عدة مناصب في تركيا، منها قائمقام منطقة أرظروم، ثم في كفرتخاريم، وحلب، وكان آخر منصبٍ تولاه رئاسة ديوان ولاية حلب في ظل الحكومة الفيصلية (1918- 1920)، وبعد دخول القوات الفرنسية سورية، شكّل مجموعات مسلحة، وقاتلهم، ثم أوقف ثورته وغادر إلى القدس (1921)، وألقى الإنكليز القبض عليه، وسلّموه للفرنسيين، وحوكم، واعتبرته المحكمة زعيماً وطنياً يدافع عن بلاده، وبرّئ، وأطلق سراحه..
أهمية العلم لتطور الشعوب لا تحتاج أدلة وبراهين، بل تكاد أن تصنّف في خانة المسلَّمات. طَلب معلمُ مدرسةٍ من تلاميذه أن يرسموا شارعاً، فرسموه. سألهم بعدما انتهوا من الرسم: هل رأيتم قَطُّ شارعاً لا تعبره السيارات؟ وأعاد إليهم اللوحات، فأتلفوها، وأخذوا أوراقاً بيضاء جديدة، وانخرطوا في رسم شوارع تعبرها سيارات.. وكان بينهم تلميذ متعلم، واسع الاطلاع، لامع، أخذ لوحته الأولى، وأضاف عليها شاخصة "ممنوع مرور السيارات". المعلم اعتبر هذا التلميذ عبقرياً، لأنه وفّر، بعلمه وذكائه، على نفسه (ومجتمعه)، ثمن ورقة بيضاء جديدة، ووفر وقتا كثيرا كان سيهدره خلال إعادة رسم الشارع.
من خلال مثال "الشارع والسيارات والطفل المتعلم"، يمكننا أن نفهم ما فعله رئيس وزراء الهند بعد الاستقلال، جواهر لال نهرو (1889- 1964)، إذ رصد لقطاع التعليم 45% من إجمالي الميزانية العامة للبلاد، وعندما سأله بعض الوزراء عن سرّ ضخامة النسبة، قال: المفروض أن تكون أكثر، ولكننا دولة فقيرة.
يجب ألا يعتمد العلم على الحفظ، ولعل المثال القائل "العلمُ في الصغر كالنقش في الحجر" يحتاج إلى تعديل، وقد كتب المفكر العربي النفري "العلم المستقر جهلٌ مستقر". يجب أن يقوم العلم على الفهم، والمراجعة، والنقد، بدليل أن رجلاً جاء إلى الإمام محمد عبده، وقال له: أمضيت زمناً طويلاً حتى حفظت صحيح البخاري، من الجلدة إلى الجلدة. فقال له: الكتاب موجود، تستطيع العودة إليه متى شئت، فلماذا تُرهق نفسك بحفظه؟ وعن النقد يقول فولتير: يطرق الرقيُّ باب أمة ويَسأل أهلها: ألديكم نقد؟ فإذا أجابوه بـ نعم، دخل، وارتقت الأمة، وإذا أجابوه بـ لا ولّى هارباً.