الثور لا يفوز أبداً

27 اغسطس 2024
+ الخط -

مشكلة الشعبوية في هذه الحقبة من تاريخنا أنها الأكثر تعبيراً عن الحاجات الفكرية البدائية لرافضي تطوير الفكر، بشكل مماثل للاستهلاكية المنبثقة من جوهر المفاهيم الرأسمالية. وأي مواجهة للشعبوية بشعبوية مماثلة، ستؤدّي إلى نهاية حتمية للطرفين، ذلك لأن انتصار فريق شعبوي على آخر يبقى مرحلياً، لأن الشعبوية، كما الثورات التي تتخذ مسارات متعرّجة غير سليمة، تموت على يد أولادها وتميت غيرهم. غير أنه حتى ذلك الحين، لا بد للشعوب من أن تعاني على وقع صعود الشعبويات في العالم. وما هو يمين متطرف في أوروبا والولايات المتحدة، هو نفسه في العالم العربي والشرق الأوسط، في مسألة رفض المنطق ومنهجية التفكير الواضحة. في هذا الحالة، تُصبح مزعجةً محاولة التفكير بأنه يُمكن محاورة الشعبويين، لا لأنهم مغسولو الدماغ أو أي شيء من هذا القبيل، بل لأنهم يرفضون الخروج من دائرة أمان غرائزية.

على سبيل المثال، هل يُمكن لأحد في لبنان مناقشة ما حصل أول من أمس الأحد بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي؟ طبعاً لا يُمكن ذلك، تحت طائلة التخوين والعمالة. هل يُمكن لأحد مثلاً طرح سؤال بشأن منع النظام السوري إقامة تظاهرات داعمة لغزّة، أو أقله فتح جبهة الجولان المحرّرة ضد الجولان المحتل؟ أكيد لا، حينها ستُصبح إمبريالياً وصهيونياً. ماذا عن أسئلة مماثلة لأطراف عدة على هذه البقعة من الشرق الأوسط؟ لن يكون الجواب ما يُمكن أن يرضي عقلك، وهو أثمن ما أُنعم على البشر، بل سيكون وفق شعبوية مرفقة بتهديد مسلّح.

هل يمكن السكوت على هذا التفلّت، وترك الشعبوية تعيث فساداً في الكوكب، وضمنه الشرق الأوسط؟ في المنطق، لا ينبغي ترك الساحة للشعبويين، مثل أفراد شرطة في مدينة محترمة تخلّوا عن قسمهم لحماية مجتمعاتهم، بفعل ضراوة المجرمين، فيما المطلوب هو استشراس الأفراد وتأمين المستلزمات المطلوبة لمنع الجريمة من الانتشار. الشعبوية جريمة، والعقل هو حارس المجتمعات. صحيحٌ أن الإنسان في النهاية كائن اجتماعي، ويخشى على نفسه، غير أن من الضروري تطوير مفاهيم مواجهة الشعبويات المتطيّرة. تعيد مثل تلك السلوكات المجتمعات إلى قرون ما قبل النهضة والتنوير واختراع الكتابة، خصوصاً في أزمنة باتت فيها "الأنا" الفردية والمجتمعية محل نقاش في علم الاجتماع والنفس والفلسفة.

لا يُمكن في مثل الحالة، السماح للشعبويات بالإمساك بالشعوب وإعادتها إلى عصورٍ، حيث كان يطلّ أحدهم بغرض إثارة الغرائز، ويسير خلفه البشر، وكأنه المنقذ الحتمي لهم. وبعد فوات الأوان، يجدونه إما بات سيّداً عليهم أو لقي مصرعه لخطأ في الحسابات، فيما هم ظلّوا في أمكنتهم إن لم يكن أسوأ. أما أهم ما يجب فهمه لمواجهة الشعبوية فهو أن هناك دائماً طرفاً استغلالياً، يجد ثغرة ما للنفاد فيها من أجل الاستفادة السلطوية، مثل أي سياسي لبناني يقفز إلى موقع في الدولة، باسم شعبوية مذهبية، ثم يتعاون مع شخصٍ مماثل له آت من شعبوية مغايرة. ما الذي يحصل هنا؟ يراهن الاثنان على إبقاء الناس بعيدين عن تحكيم العقل والمنطق، في مقابل تفاهمهما على تقاسم المصالح.

الفكرة الجوهرية هنا أنه لا يُمكن في موضوع الحديث عن تراجع معدلات إنجاب الأطفال في العالم، وتراجع القوة الاقتصادية في دول صناعية عديدة، الاعتقاد بأن الشعبوية ستكون حلاً لمشكلات الشعوب الحالية. الشعبوية تبقى دائماً الخطوة الأخيرة قبل السقوط في الهاوية. وهو ما لا ينبغي حصوله في مثل هذا الزمن، أي عهود اتساع المعرفة وسهولة اكتسابها وفهم العقل أكثر مما فهمه أسلافنا في القرون الماضي، وبالتالي إدراك قوته وقدرته على منح البشرية القوة الدافعة للمضي قدماً. فلو كان الكوكب حلبة لمصارعة الثيران، والعقل هو "الماتادور"، فإن الشعبوية هي الثور، والثور لا يفوز أبداً في أي قتال مع مصارعيه.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".