التعلّم باللعب

29 اغسطس 2022

(مروان نحلة)

+ الخط -

ليس غريباً أن نجد الأطفال يتعلمون أكثر من لغة وبسرعة قياسية، إذا قارنّاهم بالكبار الذين يتعلمونها ببطء شديد، وأظن السبب في ذلك أن تعليم الأطفال يُحاط جزءٌ منه باللعب، بينما تعليم الكبار يتّشح بالجدّية.
قبل أيام، كنا في ولاية منح (في عُمان) القريبة من ولاية نزوى في بيت أحد الأقارب، حين دخل علينا الوالد حمد البوسعيدي. في عمر الثمانين، ولكن ذاكرته متّقدة. الغريب أن كل حديثه كان عن زنجبار، وتحديداً عن طفولته هناك، حيث غادرها صغيراً برفقة والديه وإخوته. وكانت طريقته في العرض تشبه من يعرض فيلماً وثائقياً بتفاصيله المثيرة والمفزعة. مثل نجاتهم بأعجوبة من الموت إثر المذابح التي تعرّض لها العُمانيون عام 1963. وحين سألته إن كان يتقن اللغة السواحلية، أجاب بأنه أتقنها سريعاً بسبب اللعب، فقد حل على زنجبار صغيراً، ولأنه لم يكن يجلس في البيت إلا قليلاً، فإن كل وقته كان يقضيه مع الأطفال الأفارقة. كان يشاركهم ألعابهم وركضهم وعراكهم، وبذلك تمكّن من تلك اللغة في ظرف عام. علماً أن العُمانيين ساهموا في ابتكار اللغة السواحلية بهدف التجارة، ولذلك تعتبر لغة توفيقية بين القبائل الأفريقية، ومن يتأمل ويدقق في مفرداتها يكتشف الكمّ الكبير من المعاني العربية في قاموسها التداولي، مثل: أسانتي وتعني أحسنتِ، ورفيكي وتعني رفيقي، وكتابو وتعني الكتاب، ومكتابو وتعني المكتبة، وأدابو وتعني الأدب، وأفدالي تعني أفضل وأحسن، وإيبو وتعني عيب، وأكيلي تعني العقل، وأماني تعني الأمان، وإنواني تعني العنوان. وغيرها من مفرداتٍ كثيرة تكاد تملأ القاموس الأفريقي. تحدّث الوالد حمد البوسعيدي كثيراً تلك الليلة، وكان مستعدّاً لأن يستغرق في الحديث عن ذاكرته وطفولته في زنجبار حتى الواحدة ليلاً، لولا أن تدخل ابنه وأخذه إلى بيته القريب لينام، وقد جاء إلينا حين سمع أن لدى جيرانه ضيوفاً، وهي عادة عُمانية عريقة في القرى. 
وفي أثناء العودة من ولاية منح في اليوم الموالي، فاجأنا نزار الذي في عمر السابعة، ابن أخي أحمد المقيم في موسكو، وقد جاء إلى عُمان في زيارة، بأنه يتلو الأعداد العربية حتى العشرين، وهو لم يمضِ على وجوده في عُمان سوى أسبوعين، ما أدهش حتى والده، فهو في الأيام الأولى لمجيئه لم يكن يتواصل إلا بما يشبه لغة الإشارة أو يذهب إلى والده ليترجم له. ولكنه عرف الأعداد بالعربية، مع توالي أوقات اللعب مع أطفال العائلة، الذين يعتبرهم جميعاً إخوانه، حسب المفهوم الروسي كما أخبرنا أحمد. ولذلك حين سيُسأل في المدرسة، بعد رجوعه إلى موسكو، عن عدد إخوته، فإنه قد يعدّد لهم بسهولة قرابة الثلاثين اسماً. 
وعن سبب حفظه الأعداد بهذه السرعة، ذكرت أختي أنه كان بالأمس يلعب مع أبنائها لعبة الغمّيضة، حيث يخفي اللاعب عينيه بيديه ويعدّ حتى العشرين، وهي السانحة التي يتمكّن منها بقية اللاعبين من إبداع أماكن جديدة للاختباء في فسحات البيت أو خلفه، حيث توجد بعض النخيل والأشجار القصيرة كالليمون والتين. وثمّة من يختبئ في قنّ الدجاج أو خلف أحد الخراف الرابضة في مسكنها المسور. كان اللعب هنا سبباً في تعلم الطفل الذي أصبح الآن شيخ اللغة السواحلية في زنجبار، وفي تعلّم الطفل القادم من روسيا الكلام بالعربية في وقت قصير. لذلك، يمكن اعتبار اللعب مدرسةً حقيقية، لأن الطفل يدخل من خلاله في  تحدٍّ للاندماج في أسرع وقت ممكن، حتى يتمكّن من مواكبة محيطه. 
لا يبذل الصغار مجهوداً كبيراً أكثر من اللعب في تعلّم لغة الحوار، فيما يبذل الكبار مجهوداً مضاعفاً. وعلى الرغم من ذلك، يكون استيعابهم بطيئاً، لذلك صدق من قال قديماً: "التعلم في الصغر كالحفر في الصخر، وفي الكبر كالنقش على الماء".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي