التطبيع وتحدّيات الترجمة إلى العبرية
مع استمرار الجدل حيال ما باتت تعرف بـ"قضية كمال الرياحي"، الكاتب التونسي الذي نشرت روايته "المشرط" باللغة العبرية، بترجمة أنجزتها الكاتبة والمترجمة الفلسطينية، ريم غنايم، يلاحظ أكثر فأكثر خلطٌ غير مبرّر، وليس ثمة ما يشفع له، بين مسألة مقاومة التطبيع مع دولة الاحتلال، ولا سيما التطبيع الثقافي، الذي لم تسقط الحاجة إليه بعد، بل ازدادت إثر "اتفاقات أبراهام"، والغاية أو الغايات المُشتهاة من الترجمة إلى العبرية، التي قد نختلف على الحاجة إليها ربما بقدر اتفاقنا (أو عدم اختلافنا إن شئتم) بشأن الحاجة إلى مقاومة التطبيع. لكن هذا الاختلاف لا ينفي الحاجة إليها وسيلة تسعفنا في طريق الوصول إلى الغاية نفسها التي تتطلّع مقاومة التطبيع إلى تحقيقها. ومن هنا، تُشتقّ تحديات الترجمة من العربية إلى العبرية، مثلما تُشتق أيضاً من الكينونة الراهنة لإسرائيل في علاقتها مع قضية فلسطين، عنوان هدف مقاومة التطبيع.
ربما من هذا المنطلق تحديداً، ينبغي ألّا تمرّ هذه القضية، قبل أن تؤدّي إلى إثارة مسألة تحدّيات ترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية ومناقشة غاياتها التي ليس أبسطها الوصول إلى أوساط أوسع في الرأي العام الإسرائيلي في سبيل مخاطبتها، من دون أن نتغاضى عن السؤال: مخاطبتها حول ماذا؟ ومن دون أن ننأى بأنفسنا عن تحديد الجواب: مخاطبتها حول العدالة في فلسطين أولاً وقبل أي شيء، وليس حول "السلام". وإذا ما اتفقنا على أن هذه هي غايتنا، فلنتفق، في الوقت عينه، على أنه لا يمكننا أن نتحكّم في مسارها، وهي لا تفتقد جدواها، وإنْ في المدى غير المنظور.
تتوازى مع هذه التحدّيات، بصورة مناقضة لها جملة وتفصيلاً، تحدياتٌ أخرى مُسبقة البرمجة والأدلجة إسرائيلياً، وفي مقدمها البحث عن ترجمة ما يشبع رضى الذات الصهيونية الرافضة أن تنفصل عن صورتها الأصلية، لا عمّا يفيد استبطان ما يقوله الآخر، سواء الفلسطيني أو العربي. وسبقت الإشارة، أكثر من مرّة، إلى أن في هذا يكمن تفسير التركيز على مسألة موافقة الكتّاب العرب على ترجمة نتاجهم، تماشياً مع غاية التطبيع الثقافيّ مع إسرائيل، وفي مؤشر على مكافحة حملة مناهضة هذا التطبيع. يُضاف إلى هذا أن ثمّة محاولات لترجمة أدب عربي يحمل رسائل سياسية إلى ناحية مسبقة الاختيار، أبرزها أن العالم العربي يواجه معضلاتٍ رهيبة، ليست مرتبطة بأي حال بقضية فلسطين أو بوجود إسرائيل وسياستها، ما يصبّ في خدمة استدرار شرعية عربية للصهيونية في وعي القارئ الإسرائيلي.
في هذه القضية كذلك ما يستوجب إعادة فتح ملف آخر: يُعتبر التطبيع العربي مع دولة الاحتلال عملاً مُنكراً وشائناً بكل المعايير، وهو ما تستشعره القاعدة الشعبيّةُ عموماً، وكذلك مُعظمُ النُّخب الثقافيّة، حتى في الدول التي تنخرط فيه على نحوٍ علنيّ وسريّ. غير أنه بالقدر نفسه لا ينطبق مُصطلح التطبيع، بل لا يجوز أن ينطبق أبداً، على علاقة العالم العربيّ بالفلسطينيّين في مناطق الـ 48.
منذ أعوام عديدة نكرّر هذه المقولة. في إحدى المرّات قال قائل إنّ هذه المسألة بديهيّة، والعودة إليها هي بمثابة تأكيد المؤكَّد. كان الجواب: هذا صحيح، لكنّ قدراً غير قليل من حالات الالتباس ما زال يعتوره بين الفينة والأخرى. ومن دون الدخول في تفاصيل كلّ حالةٍ على حدة، ينبغي القولُ إنّ أحد أهمّ أسباب ذلك الالتباس يعود إلى أنّ جهاتٍ عربيّةً، لا يُمكن التشكيكُ في نيّاتها الوطنيّة والقوميّة، تَعتبر أنّ بعضَ النشاطات التي يلجأ إليها فلسطينيّو الـ48 من أجل إدارة صراعهم مع الواقع الاستعماريّ المفروض، وضمن سياق الدفاع عن هُويّتهم، إنّما هي من سمات التطبيع مع النظام الصهيوني، وهي ليست كذلك قطّ. اليوم يخصّ الحديث نشاط الترجمة، وتحديداً مشروع ريم غنايم "تسعة أقمار" الذي يُعنى بترجمة نماذج إبداعية من الأدب العربي إلى العبرية، ويمكن تناوله من عدة وجهات نظر، إلا من أنه تطبيع مع الصهيونية.