البابا فرنسيس وسنان أنطون
قال بابا الفاتيكان فرنسيس، في كلمته يوم الجمعة الماضي، في كنيسة النجاة في بغداد، إن موت "إخوتنا وأخواتنا" الذين قضوا في الهجوم الإرهابي الذي تعرّضت له الكنيسة (أو الكاتدرائية)، قبل عشر سنوات، "يذكّرنا بأن التحريض على العنف ومواقف الكراهية والعنف وإراقة الدماء لا تتفق مع التعاليم الدينية". أحد الضحايا، وهم 58 بينهم كاهنان، بطل رواية العراقي سنان أنطون "يا مريم" (منشورات الجمل، بيروت، بغداد، 2012)، يوسف، الذي ظل جسدُه "مسجّى على أرض الكنيسة أكثر من أربع ساعات، قبل أن يُحمَل إلى الخارج، بعد تخليص الرهائن، وإخلاء الجرحى. كان محاطا بأشلاء بشريةٍ، وبقطع الزجاج المكسور والغبار والجص، وببركةٍ صغيرةٍ من الدم الذي ظلّ ينزفه". .. هذا من إحدى صور آخر فصول الرواية التي أظنها الوحيدة في المدوّنة الروائية العراقية اكترثت بأحوال العراقيين المسيحيين. وكانت واقعة 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2010، في الكنيسة التي زارها البابا فرنسيس في جولته العراقية، واحدةً من أفظع نوبات استهدافهم بعيْد الاحتلال الأميركي. وقد خاطب بطاركةً وأساقفةً وكهنةً وراهبات ورهبانا عراقيين إنهم إنما يجتمعون في هذه الكاتدرائية (أولى ثلاث كنائس زارها في العراق) "نتبارك فيها بدماء إخوتنا وأخواتنا الذين دفعوا هنا ثمن أمانتهم للرب وكنيسته".
لم يكن الثمانيني يوسف، الشخصية المتخيّلة في رواية سنان أنطون، يذهب إلى الكنيسة إلا في الأعياد والمناسبات، كان "مقصّرا" في واجباته الدينية، على ما كانت تقول عنه أخته المتوفّاة، حنة، غير أنه في ذلك الأحد مشى من منزله إلى الكنيسة ليحضر القدّاس. وصل قبل مها، العشرينية الحامل، المستضافَة مع زوجها في منزله، الحانقة على المسلمين الذين "ميْريدونا، بكل بساطة، علمود يظل البلد إلهم". وتقول "يمكن كان بلدنا قبل، ..، أيام زمان. كان .. بالماضي. هسّة خلص، هسّة صرنا كلنا كفار وذميين". هذا من كثيرٍ تقوله لـ "العم يوسف" الذي يُخالفها، ويحدّثها عن العراق كله مستهدفا، بمسلميه ومسيحييه. ترميه بأنه يعيش في الماضي. لا يزعل، يتفهمها، فهو يستعيد ذلك الماضي الوديع، ليحتمي به. ويعتبر أن استشراء الطائفية الراهن في العراق عارضٌ عابر. إنه يدرك أسباب غضب مها، هي التي "فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار، وذاقت طعم القحط والقتل والتشرّد مبكرا. أما أنا فقد عشت أزمنة الخير ..". وفي إقامته التضادّ بين رؤيتيهما، وفي استعادات كلٍّ منهما حياته وعلاقاته وتفاصيل أسرته، ينجح سنان أنطون (المهاجر في أميركا) في روايته المكثفة (160 صفحة) في بناء سرديتيْن، وفي تمثّل حنينٍ إلى عراقٍ مضى، وتشخيص عراقٍ ماثل. وقبل هذا وذاك، تتوفق روايته، فنيا، في تجوالها في راهن العراقيين المسيحيين وماضيهم. وإذا كان البابا فرنسيس، في كلماته في زيارته (التاريخية بحق) العراق، قد جاء على هذا الراهن وذاك الماضي، من قبيل إشارته إلى التناقص الفادح بأعدادهم في بلدهم، بعد موجات الفتك بهم وتهجيرهم، والتي استهلتها "القاعدة" (مرتكبة جريمة كنيسة النجاة)، وواصلها مسلّحو "داعش"، وإذا كانت كلمات المسؤولين والبطاركة العراقيين في جولات البابا قد ذكّرت أيضا بهذا الأمر وغيره، فإن "يا مريم" بسطت الحكاية كلها، ما كان وما صار، بكيفيةٍ أقرب إلى النفس، لا لشيءٍ إلا لأنها فنٌ ورواية.
ولعلّه من مواضع النباهة الوفيرة في الذي صنعه سنان أن مها نجت من المقتلة في الكنيسة، وإنْ أسقطت حملها، فيما يوسف هو من قضى، وهو الذي يفيض تسامحا، ولا ينتظر موعد خروجه من العراق، كما مها وزوجها، ولم يغادر العراق مثل أخوين له، وكثيرين من عائلته. وعندما تستفيض الرواية في إضاءتها على علاقته بالنخيل (عمل سنوات في هيئة التمور)، وهو يرى أن الذي لا يحبّ النخيل لا يحبّ الحياة ولا الإنسان، فإنما توحي بمغاز غزيرة. يوسف هذا يقتلُه، مع عشراتٍ من بني دينه وبلده، في لحظة صلاة في كنيسة، إرهابيون (لهجة أحدهم سورية، حسب مها في الرواية؟!). كان يُزاول ما طلبه البابا فرنسيس، في الكنيسة نفسها، أن تساعد الجماعة الكاثوليكية في العراق، "وإن كانت صغيرةً مثل حبة الخردل" في الاستمرار في إثراء مسيرة البلد بأكمله. .. ولكن هذا العراقي الوديع، والذي أعطاه سنان أنطون المساحة الأعرض ليسرُد بنفسه، يقتلونه. ثم لا صورة له في الكنيسة يراها البابا، إذ يقيم في متخيّل كاتب رواية.
يُربكنا سنان أنطون .. هل يصطفّ مع منطوق يوسف، المغدور في كنيسة، أم مع قول مها "ماكو أمل"؟