الانتخابات الرئاسية التونسية ... الاختبار الأصعب

04 مارس 2024

في مركز اقتراع خلال الجولة الثانية من الانتخابات المحلية في تونس (4/2/2024/الأناضول)

+ الخط -

تتالت أخيراً في تونس التصريحات الرسمية للتأكيد أنّ إجراء الانتخابات الرئاسية سيكون في موعدها في خريف السنة الجارية (بين سبتمبر/ أيلول وديسمبر/ كانون الأول)، أي في نهاية العهدة الرئاسية الأولى للرئيس قيس سعيّد (2019 - 2024) حسب القانون الانتخابي المعتمد سنة 2014 بناءً على دستور ثورة الحرية والكرامة الذي ألغاه الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2022، واستبدله بدستور جديد كتبه هو بنفسه وحده. وستكون هذه الانتخابات المحطّة الأخيرة في أجندة قيس سعيّد لإعادة تشكيل النظام السياسي وبناء مؤسساته بديلاً من منظومة الحكم التي أفرزها دستور الثورة (2014) وجاءت بسعيّد رئيساً للجمهورية في 2019.

هل تختلف هذه الانتخابات عن سابقاتها التي انعقدت منذ 25 يوليو/ تموز 2021، من حيث السياقات والرهانات؟ كيف يستعدّ لها الحكم والمعارضة؟

تكتسي هذه الانتخابات أهمية قصوى لدى الحكم والمعارضة، لاعتبارات موضوعية وأخرى خاصة بكل منهما. وتعكس أهمية هذه الانتخابات محورية الرئاسة في منظومة الحكم التي جاء بها دستور قيس سعيّد، وفي المزاج الشعبي التونسي الذي غذّى فيه سعيّد الحنين إلى النظام الرئاسي الذي يجعل من الرئيس محور الحكم ومجمع السلطات والمخاطِب الوحيد للشعب التونسي.

يرى الحكم في هذه الانتخابات تتويجاً لمسار أجندته السياسية، وأنّ إجراءها في وقتها دليلٌ على نجاحه في القطع نهائياً مع منظومة ما قبل 25 يوليو/ تموز 2021 وبوّابة لاكتساب شرعية شعبية ودستورية جديدة لمواصلة حكم البلاد، حتى ولو كانت نسب المشاركة في هذه الانتخابات متدنّية كما كانت في كلّ الاستحقاقات الانتخابية لما بعد "25 يوليو". أما المعارضة التي أعلنت أنها معنيّةٌ بالانتخابات، فهي على رأيين من معنيين مختلفين: الأول ديمقراطي يرى في هذه الانتخابات محطّة مهمة وآلية دستورية لاستعادة حالة ديمقراطية متخفّفة من "عاهات" تجربة الانتقال الديمقراطي، وبالتالي غلق قوس ما تسميه الانقلاب وإنهاء الشعبوية وحكم الفرد الجامع لكلّ السلطات. والثاني، يقف في أقصى يمين المشهد السياسي التونسي وصوت الثورة المضادّة ممثلاً في حزب عبير موسي (الدستوري الحرّ) الذي يعارض قيس سعيّد لتقصيره في اجتثاث الإسلام السياسي وتصفية حركة النهضة، بل ويرى في سعيّد ذاته من تعبيرات الإسلام السياسي.

رهانات متباينة

تبدو الرهانات المتعلّقة بالانتخابات الرئاسية التونسية عديدة وثقيلة ومتباينة، بالقدر الذي تتباين فيه الخلفيات والإرادات بين الحكم والمعارضة. يمكن تكثيف هذه الرهانات في ثلاث قضايا كبرى تمثل تحدّيات حقيقية يرتبط بها مستقبل تونس:

(1): النظام السياسي والديمقراطية: تعتبر هذه القضية مدار خلاف رئيسي بين الحكم والمعارضة، تتحدّد على أساس الموقف منها قضايا أخرى كثيرة مهمة، فقد بنى الحكم شرعيته ومشروعيته على نقض النظام السياسي للثورة أو لما قبل "25 يوليو" الذي كرّس (من وجهة نظره) تقاسم السلطة والنفوذ والمغانم بين مجموعة من الأحزاب واللوبيات على حساب مصالح الشعب صاحب السيادة. جاء دستور 2014 بنظام سياسي "هجين" تتوزّع فيه السلطة بين رئاسات ثلاثة (الجمهورية، الحكومة، البرلمان) مسنودًا بمنظومة من هيئات دستورية تتشكّل بالمحاصصة وتعمل سلطاتٍ مستقلة كلّ واحدة في مجالها. أدّى هذا النظام السياسي، من وجهة نظر الحكم، إلى تشتيت القرار وضرب مركزيته، خصوصاً مع قيام الحكم المحلي واستقلاله بالتدبير الذاتي لشؤون المحليات والجهات.

على أساس هذا النقد للنظام السياسي لما قبل "25 يوليو" بنى الحكم مشروعه، وعنوانه التمثيل القاعدي، وأدواته دولة مركزية وقوانين زجْرية وتضييق على الحقوق والحريات ونظام رئاسي تجتمع فيه كلّ السلطات بين يدي الرئيس وتمثيلية برلمانية على أساس الأفراد (تمثيلية قاعدية). وتقتضي هذه الرؤية للحكم تهميش الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني ومنظماته والسيطرة على كلّ الفضاءات الإعلامية والحقوقية والنقابية والرياضية وغيرها من أجل تحويل وجهتها وتوظيفها في مشروع الرئيس. لا تحتاج تونس من منظور الحكم أجساماً وسيطة (المجتمع المدني والمجتمع السياسي) بين المجتمع والدولة أو بين الشعب وقائده، وهو رئيس الجمهورية الذي يتمتع بصلاحيات وسلطات لم يسبق أن تمتّع بها أي حاكم في تونس عبر كلّ تاريخها القديم والحديث.

يقود الرئيس قيس سعيّد، من خلال وزيرته للعدل، حملة اعتقالات من دون ضوابط أو سقوف

تقف المعارضة الديمقراطية المعتدلة بجميع مكوّناتها، وعلى تنوّع خلفياتها الفكرية (يسارية، علمانية، إسلامية) على الضفة الأخرى في اختلاف جوهري مع مشروع الحكم ومقاربته النظام السياسي. تتفق المعارضة، مع شيءٍ من التباين، في الحاجة إلى مراجعة النظام السياسي الذي جاء به دستور الثورة (2014) وتنقيحه لتجاوز بعض فراغاته وإشكالاته التي تأكّدت بعد بضع سنوات من اعتماده جعلت منظومة الحكم عاجزةً عن تجاوز مصاعب وأزماتٍ عديدة، ما أحدث حالة من الانسداد والعجز عن الإنجاز تقريباً. تعتبر المعارضة دستور الثورة مكسباً ديمقراطياً مهماً، وأن نظامه السياسي في حاجة إلى مراجعة تنقله من نظام برلماني معدّل إلى نظام برلماني خالص أو نظام رئاسي يقوم على التفريق بين السلطات، تتوزع فيه السلطة بين المركزي والمحلي من خلال ديمقراطية تمثيلية يكون فيها للأحزاب السياسية ولمنظمات المجتمع المدني بمختلف روافده دور مهم ومحوري في تجسير العلاقة بين الشعب والدولة.

تبني المعارضة رؤيتها على أساس مبادئ الديمقراطية والدروس المستفادة من تجربة الانتقال الديمقراطي الاستثنائية التي عرفتها تونس في العشرية الماضية، والتي يمكن تعريفها بعشرية الحريات والحقوق والديمقراطية وهو أهم منجز للثورة ساهم في تغيير نمط العلاقة بين التونسي ودولته، وبين التونسيين فيما بينهم والانتقال بها من علاقة الاستبداد ونظام الرعايا إلى علاقة الحرية ونظام المواطنة. بهذا المعنى، تعتبر المعارضة أنّ أطروحة الحكم للنظام السياسي والديمقراطية انتكاسة إلى الوراء وردّة عن مكاسب المجتمع التونسي التي ناضلت من أجلها أجيال متعاقبة، وسير في الاتجاه المعاكس للتاريخ الذي يجعل من الحرية والديمقراطية والمواطنة الفاعلة الأفق الذي تتجه إليه الشعوب ومنها الشعوب العربية.

(2): التنمية والمسألة الاقتصادية الاجتماعية: تمثل قضايا التنمية والمسألة الاقتصادية الاجتماعية عبئًا ثقيلًا على نظام الحكم، بسبب فشله الكبير فيهما، رغم كلّ ما توافر بين يديه من صلاحيات ومناخات. فقد تعمّقت أزمة المالية العمومية وتراجعت كل المؤشّرات، وانعكس ذلك واضحاً على "قفة" المواطن التونسي ومقدرته الشرائية المتراجعة باستمرار وبنسق متسارع نتيجة الارتفاع المُشط للأسعار وفقدان عديد من المواد الأساسية من الأسواق، بسبب تراجع الإنتاج الداخلي إلى أدنى مستوياته، وتراجع التصدير، وتوقف التوريد بالكميات المطلوبة لتعديل الأسواق والأسعار. كذلك تعمّق عجز الحكومة عن توفير الموارد المالية الضرورية لتمويل العجز المتفاقم في الميزانية وغياب الموارد الضرورية لتمويل مشاريع التنمية نتيجة تراجع الاستثمار الداخلي والخارجي إلى أدنى مستوياتهما. تعيش تونس حالة غير مسبوقة على الأقل في حدّيتها من العجز المالي والفشل الاقتصادي وتعطل آلة الإنتاج.

رغم هذا الفشل البيّن في الشأن الاقتصادي والاجتماعي منذ 25 يوليو/ تموز 2021، يكابر نظام الحكم، ويسعى للتغطية عن ذلك بتحميل كلّ المسؤولية للعشرية السابقة، وما قبلها من عهود وبفكّ الارتباط بين التنمية والديمقراطية، واعتماد خطاب شعبوي عن مشكلات حقيقية، ولكنه لا يقدّم أيّة حلول واقعية وناجعة، بقدر ما يزرع آمالًا موهومة، مثل الاعتماد على النفس ومكافحة الفساد والفاسدين واسترجاع الأموال المنهوبة وتوزيعها على الجهات والفئات المحرومة وتحقيق التنمية من خلال "الشركات الأهلية"، باعتبارها مؤسّسات اقتصادية أهلية يُنشئها المواطنون، ويديرونها ويساهمون في رأس مالها ويتمتعون بريعها.

تحتاج المعارضة أن تقدّم للتونسيين في القريب عرضها الاقتصادي الاجتماعي ومقاربتها لتجاوز الأزمة الراهنة وفتح الآفاق نحو وضع أفضل

تفيد الأرقام والوقائع، فضلاً عن التحاليل والدراسات المقارنة، بأن العرض الاقتصادي الاجتماعي لنظام قيس سعيّد يحمل، في داخله، أسباب عجزه وفشله، وأنه لا أمل يرجى منه في إنقاذ الاقتصاد التونسي وتحقيق التنمية المنشودة، وأنّ الإصرار على فرضه سيعرّض تونس لمخاطر كبرى قد تفتح على أسوأ السيناريوهات، من دون أن تكون لتونس المنهكة القدرة على مواجهتها أو الخروج منها. لمقاومة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة من رجال الأعمال الذين استفادوا من علاقاتهم بنظام الحكم، وخصوصاً زمن الرئيس زين العابدين بن علي، يقدّم نظام الحكم وصفة لم تأتِ بأي شيء تقريبًا (40 مليون دينار فقط من جملة ثلاثة عشر ألف مليار دينار)، رغم مرور قرابة السنتين على اعتماد قانون الصلح الجزائي الذي اضطرّ سعيّد إلى تنقيحه وتغيير القائمين على هيئته وتمديد آجاله أكثر من مرّة، لينتهي الأمر في الأخير إلى اعتقالات قد تتوسّع أكثر في صفوف رجال الأعمال ومصادرة أملاكهم وأموالهم. أما الشركات الأهلية التي يقدّمها نظام الحكم، أهم محرّك لتحقيق التنمية المحلية والجهوية والمساهمة في التنمية الشاملة، فإن ما تمّ تركيزه منها جعلها محلّ تندّر لضعف الإقبال على تكوينها وتواضع مشاريعها ومحدودة مردوديته الاقتصادية وضعف مواردها المالية وهزال مكاسبها. لإنقاذ هذه التجربة من الفشل الذي يبدو محتّماً، اتجه نظام الحكم إلى تمويل الشركات الأهلية عبر تمليكها جزءاً من موارد الدولة وأملاكها في مرحلة أولى، وإلى "ابتزاز" البنوك لتقديم قروض بنكية ميسّرة للشركات الأهلية، مثل ما حصل، أخيراً، مع "بنك تونس العربي الدولي" الذي يقبع رئيسه في السجن على خلفية قضية تهرّب ضريبي بعد رفضه دفع المبالغ الضخمة التي طالبته بها الدولة ضمن الصلح الجزائي.

تعتبر المعارضة أن التنمية والمسألة الاقتصادية الاجتماعية من المسائل الجوهرية التي تختلف فيها مع نظام الحكم من ناحية قراءة الواقع وتحديد أولوياته ومن حيث رؤية المعالجة ومحركاتها وآلياتها والفاعلين فيها. فقد عبّرت جبهة الخلاص الوطني المعارضة (تجمّع من شخصيات وطنية وأحزاب سياسية من ضمنها حركة النهضة) في أكثر من مناسبة عن قراءتها للمشهد الاقتصادي الاجتماعي، وهي تختلف جوهرياً عن الصورة التي يريد نظام الحكم تسويقها. تتجه تونس من وجهة نظر الجبهة، في صورة تواصل الديناميكية الراهنة نفسها، إلى الانهيار المحتّم وهو مصير لا يمكن تجنّبه إلا باعتماد رؤية اقتصادية اجتماعية على نفسين، نفس أول فيه برنامج استعجالي لوقف النزف وإنقاذ الاقتصاد، ونفس ثانٍ فيه رؤية بعيدة المدى أو استراتيجية لبناء منوال تنموي جديد يعيد تشكيل العملية الاقتصادية على أساس مقاربة منفتحة، دامجة وتشاركية تعيد الوصل بين التنمية والديمقراطية أولاً، وتعيد تفعيل المحركات الرئيسية للتنمية مثل الاستثمار والحكم المحلي ثانياً، وتثمن مخزونات الموارد المحلية والجهوية في إطار مشاريع تنموية مستدامة، ثالثاً.

تحتاج المعارضة أن تقدّم للتونسيين في القريب عرضها الاقتصادي الاجتماعي ومقاربتها لتجاوز الأزمة الراهنة وفتح الآفاق نحو وضع أفضل، وأن تسعى لتعبئتهم ضمن مقاربتها باعتبار المواطن محور العملية الاقتصادية وأحد أهم الفاعلين فيها.

الانتخابات الرئاسية المحطّة الأخيرة في أجندة قيس سعيّد لإعادة تشكيل النظام السياسي وبناء مؤسساته بعيداً عن دستور الثورة

(3): العلاقات الخارجية: منذ انتخابه رئيسًا سنة 2019، لم يُبد قيس سعيّد أي تحفّظ في التعبير عن رؤيته لموقع تونس في العالم، ورغبته بالأقوال والأفعال في تغيير هذا الموقع أو على الأقل هزّه وتهديده، فقد بدأ بضرب الموقف الرسمي لتونس من الصراع الليبي - الليبي وأطرافه، واتجه إلى استبدال المخاطب الليبي الوحيد مع تونس، وهو حكومة الوحدة الوطنية إلى ثنائية المخاطب بفتح قنوات رسمية مع حكومة الشرق الموالية لخليفة حفتر. وتندرج هذه السياسة تجاه الجار الليبي ضمن توجّه سعيّد إلى بناء علاقات شراكة متطوّرة مع النظام المصري باعتباره نموذجًا ناجحًا في الحكم. ويعتبر هذا التوجه التونسي نحو مصر تغييرًا غير مألوف ولا مستساغ من منظور ثوابت الديبلوماسية التونسية التي تعتبر الجزائر الشقيقة الكبرى والظهير التقليدي والتاريخي لتونس. وإلى جانب التوجّه نحو مصر وإدارة الظهر نسبيًا للجزائر، فقد عمد قيس سعيّد إلى إحراج المغرب أكثر من مرّة باستضافة وفود عن جبهة البوليساريو، مرّة أولى في قمّة الفرنكوفونية المنعقدة بتونس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وثانية بفتح المجال لرجال أعمال من "بوليساريو" للمشاركة في المعرض الاقتصادي لمدينة صفاقس بالوسط التونسي. لقد نقل قيس سعيّد دبلوماسية تونس في المغرب العربي من دبلوماسية هادئة ومتوازنة وبعيدة عن المحاور إلى دبلوماسية متوتّرة ومندرجة ضمن محاور.

ويبقى الأخطر في دبلوماسية قيس سعيّد سعيه لتغيير تموقع تونس ضمن الساحة الدولية بسحبها، بكثير من الاستسهال والشعبوية، من محيطها التقليدي وهو الغرب الأميركي والأوروبي إلى محيط الجهة المقابلة، وهو الشرق ممثلًا بالصين وروسيا وحلفائهما، وهو توجّه خطير لا تستدعيه المصلحة، ولا تقتضيه القراءة العميقة للخريطة الدولية واتجاهات تطوّرها، ولا تمتلك تونس مقومات الذهاب فيه والصبر عليه، فضلًا عن النجاح فيه. إذ تبدو المعارضة أكثر عقلانية ومحافظة في رؤيتها للدبلوماسية التونسية في المنطقة، ولموقع تونس في العالم، ولكنها تبقى مطالبة بأن تقنع التونسيين بسلامة رؤيتها ونجاعتها، وبأنّها الأنسب لتونس ومصالحها ضمن منظومات الأوضاع الإقليمية والدولية. ولا تلغي المحافظة من منظور المعارضة الحاجة إلى تطوير العلاقات مع دول الجوار المباشر أساسًا (ليبيا شرقًا والجزائر غربًا) تحت سقف ثوابت الدبلوماسية التونسية، ومنها الاستقرار وتجنّب الوقوع في سياسة المحاور واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، مضاف إلى ذلك التعاون من أجل بناء حالة ديمقراطية في المنطقة ومنظومة اقتصادية مشتركة وتنويع المبادلات التجارية وتوسيعها.

على المستوى الدولي، تعتبر المعارضة أن أهمّ عناصر قوة تونس استقرارها ووحدتها والتفاف شعبها وقواها الحيّة من أحزاب ومنظمات المجتمع المدني حول مشروع وطني ديمقراطي يسع الجميع بعيدًا عن الإقصاء والتهميش تقوده دولة ديمقراطية متصالحة مع شعبها وهويته وحاضنة لكل أبنائها. فلا مصلحة لتونس في الاصطفاف ضمن سياسة المحاور الدولية كما لا مصلحة لها في تغيير تموقعها في العالم من الغرب إلى الشرق.

تونس تدخل الزمن الانتخابي

بدا واضحًا أنّ قيس سعيّد قد دخل فعليًا الزمن الانتخابي، وبدأ حملته الانتخابية قبل أوانها "الدستوري"، رغم قوله المتكرّر إنه لن يقوم بحملة انتخابية مثلما فعل في انتخابات 2019، حيث "اقتصر" نشاطه الانتخابي على القيام بحملة "تفسيرية" لأفكاره السياسية بين صفوف الشباب في المحليات والجهات. لم تقتصر حملة الرئيس سعيّد الانتخابية هذه المرّة على ما يصرّح ويقوم به فحسب، بل أيضاً توسّع إلى توظيف أجهزة الدولة وكل الفضاءات تقريباً من أجل تعبئة عامة لصالحه، فقد تكرّرت تنقلات سعيّد وزياراته المناطق والمنشآت العمومية والأسواق والتجمّعات الشعبية، بهدف الاقتراب أكثر من الشعب، بعد أن أشارت استطلاعات للرأي عديدة موثوقة إلى تراجع شعبيته، رغم أنه يبقى الأول في نيّات التصويت، ولكن بنسبة أقل بكثير مما حصل عليها في 2019.

تعتبر المعارضة أن أطروحة الحكم للنظام السياسي والديمقراطية انتكاسة إلى الوراء

 

من جانب آخر، يقود سعيّد، من خلال وزيرته للعدل، حملة اعتقالات دون ضوابط أو سقوف، شملت إلى حد الآن عشرات رجال الأعمال والقادة السياسيين المعارضين والمترشّحين المحتملين لمنافسته في الانتخابات. ومن المرجّح أن تتوسع دائرة الاعتقالات في الفترة المقبلة، وخصوصًا في أوساط السياسيين لتجريف الفضاء السياسي من كلّ ما من شأنه أن يقضّ مضجع الرئيس. فالرئيس يريد تجديد ولايته عبر بيعة شعبية واسعة، وليس من خلال منافسة انتخابية قد يواجه فيها صعوباتٍ وإحراجات، بسبب تواضع محصلة تجربته في الحكم خمس سنوات، ثلاث منها بسلطات مطلقة.

من الجهة الأخرى، بدأت ديناميكية الانتخابات تشقّ طريقها في أوساط المعارضة الديمقراطية المعتدلة، وبدأت الاتصالات في تصاعد بين المترشّحين والأحزاب التي تتوافر على خزّان انتخابي مهم، مثل حركة النهضة من أجل البحث عن تفاهمات. ومع ذلك، لا تزال جاهزية المعارضة لخوض الرئاسية دون المأمول، ودون ما يقتضيه الوضع من حوار صريح وبنّاء يعلي من شأن المصلحة الوطنية في انتخاب رئيس ديمقراطي له مرجعية وسابقة ديمقراطيتان معلومتان لا يرقى إليهما الشك، متخفّف من إخفاقات الحكم في العشرية السابقة، قادر على تجميع المعارضة وتمثيلها وكسب أصوات الناخبين من مختلف الخزانات الانتخابية، قادر على المنافسة الجدّية والفوز في الانتخابات.

تبدو الانتخابات الرئاسية التونسية الاختبار الأصعب للحكم والمعارضة لأن من يكسبها سيكسب مستقبل تونس

تحتاج المعارضة الديمقراطية الانطلاق في مسار اختيار مرشح يمثلها وعدم تكرار خطأ الانتخابات السابقة من خلال مشاورات صريحة، تفضي إلى الاتفاق على مواصفات المرشّح أولًا، وإلى وضع رؤية شاملة للحملة الانتخابية، من حيث الفئات والجهات المستهدفة ثانيًا، ومن حيث مضمون الخطاب وبرنامج المرشّح وتمويل الحملة الانتخابية وغيره ثالثًا. يقتضي النجاح في هذا المسار تحلّي جميع أطراف المعارضة الديمقراطية المعتدلة من أحزاب وشخصيات بأقدار كبيرة من العقلانية وروح المسؤولية وتغليب المصلحة الوطنية العليا تسمح بوضع حدّ لحكم سعيّد والعودة إلى الحالة الديمقراطية وشرعية ثورة الحرية والكرامة.

لن يكون هذا المسار فسحة ولا ترفاً، بل دربة عبر طريق محفوفة بالمتاعب والمصاعب والاختبارات، وسيكون فيه للأطراف ذات الخزّانات الانتخابية المهمّة، مثل حركة النهضة، وللشخصيات الوطنية الوازنة مثل رئيس جبهة الخلاص الوطني، أحمد نجيب الشابي، دور تاريخي مهم في إنجاح هذا المسار، والوصول به إلى نهاياته المأمولة، وهي الاتفاق على مرشّح واحد والمنافسة الجدية والفوز في الانتخابات.

... لكل ما تقدّم بيانُه، تبدو الانتخابات الرئاسية التونسية الاختبار الأصعب للحكم والمعارضة لأن من يكسبها سيكسب مستقبل تونس.

جمال طاهر
جمال طاهر
باحث وإعلامي تونسي في مونتريال، مستشار سابق لرئيس البرلمان راشد الغنوشي