الاستفتاء على الدستور في تونس .. السياق والنتائج والتداعيات
مقدّمة
شهدت تونس، في 25 تموز/ يوليو 2022، استفتاءً على مشروع الدستور الذي اقترحه الرئيس قيس سعيّد لتغيير النظام السياسي في البلاد. ويوافق يوم الاستفتاء الذكرى الأولى للانقلاب الذي نفّذه سعيّد على دستور 2014، ويأتي بعد سلسلة من المراسيم التي بمقتضاها، أُلغيت جلُّ المؤسسات والهيئات الدستورية، ورُكِّزت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بين يدي الرئيس نفسه. رافقت الاستفتاءَ تجاذباتٌ عديدة بشأن شرعيته والسياق العام الذي جرى فيه منذ إصدار المرسوم المنظّم وتنصيب هيئة انتخابات جديدة، مرورًا باللجنة المكلفة بصياغة مشروع الدستور، ووصولًا إلى يوم الاقتراع.
"الاستشارة الإلكترونية" مرجعيةً لمشروع الدستور
بعد خمسة أشهر من انقلاب سعيّد على الدستور، أعلن في كلمة وجهها إلى التونسيين، في 13 كانون الأول/ ديسمبر 2021، جملةً من الإجراءات التي اعتبرها خريطة طريق للمرحلة الجديدة. وتضمّنت الخريطة المعلنة تنظيم "استشارة إلكترونية"، وتسمية لجنة تتولى صياغة وثائق تخص النظام السياسي والدستوري والانتخابي، وتنظيم استفتاء على الدستور، وصولًا إلى تنظيم انتخابات برلمانية خلال عام 2022.
افتتحت "الاستشارة الإلكترونية"، التي تتطلب الإجابة عن أسئلة متعلقة بالنظام السياسي والشأن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي، في 1 كانون الثاني/ يناير 2022، وتواصلت إلى 20 آذار/ مارس من العام نفسه. ورغم تعبئة وسائل الإعلام والجهاز الإداري للدولة وتجنيد فِرقٍ جوّالة في المدن والقرى، وفتح المراكز الإعلامية ودور الشباب والثقافة، ومنح مستخدمي الإنترنت مجانية الوصول إلى المنصّة، والسماح بمشاركة القُصّر، فقد شهدت الاستشارة عزوفًا كبيرًا، ولم تتجاوز نسبة المشاركين فيها 5.9% من مجموع البالغين 16 عامًا فأكثر؛ وهي نسبة، على ضعفها، جرى التشكيك فيها؛ بالنظر إلى أنها لم تنظّم من هيئة مستقلة، ولم تكن مراقبة، وبالنظر إلى المشكلات التقنية التي شابَتها أيضًا، ومن بينها إمكانية تكرار مشاركة الشخص الواحد بمجرد تغيير شريحة الهاتف الذي يستخدمه لاستقبال رمز العبور.
مُنعت الأحزاب المعارضة من القيام بأي دعاية ضد مشروع الدستور
ورغم ضعف المشاركة، اعتبر الرئيس سعيّد أن الاستشارة كانت ناجحة، وأن نتائجها ستكون مرجعية "الحوار الوطني" الذي سيتولّى صياغة مشروع الدستور، وأن المشاركة في الحوار ستقتصر على الأطراف التي تقبل بمرجعية هذه النتائج، وأتْبَع ذلك بتشكيل "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة" لتمثّل إطارًا لـ "الحوار الوطني"، وكلّف الأستاذ الجامعي الصادق بلعيد برئاستها، ودعا رؤساء الأحزاب المؤيدة له، وعمداء كليات الحقوق، وممثلين عن الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين بتونس، وشخصيات سياسية، إلى عضوية هذه اللجنة، غير أنّ أطرافًا مهمة؛ مثل الاتحاد العامّ التونسي للشغل، وعميد كلية الحقوق، وآخرين، قاطعت الحوار.
لم يكن ذلك حوارًا بين القوى الاجتماعية والسياسية الوازنة في تونس. وقد قدّمت اللجنة مسوّدة الدستور إلى الرئيس سعيّد، وسط جدلٍ كبير بين عدد من أعضائها بشأن استئثار رئيسها بلعيد بصياغة مسودة الدستور وإقصائهم من المشاورات المتعلقة بها، غير أن الرئيس سعيّد نشر مسودة أخرى، تختلف حتى عن المسوّدة التي سلّمها له الصادق بلعيد؛ ما أدى إلى احتجاج بلعيد وإعلان براءته من المسوّدة المنشورة التي اعتبر أنها تنطوي على "مطبّات ومخاطر جسيمة"، و"تمهد لنظام دكتاتوري مشين".
ننتهي، إذًا، إلى ورقةٍ صاغها شخص واحد بموجب خططه وأفكاره المسبقة، وإلى أنّ المشاورة الإلكترونية، واللجنة الاستشارية، كانتا مجرد إجراءات شكلية.
هيئة انتخابات وحملة على المقاس
شملت عملية تهيئة الظروف لإجراء الاستفتاء إصدار الرئيس مرسومًا في 21 نيسان/ أبريل 2022، حلَّ بمقتضاه مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات؛ وهي هيئة دستورية منتخبة من مجلس النواب، وعَزَل رئيسها وجُلَّ أعضائها، وشكّل، بدلًا منها، مجلسًا جديدًا وعيّن رئيسه.
جاء حل الرئيس سعيّد لمجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، واستبدالها بمجلس آخر مُعيَّن، في سياق تصفية مكتسبات عشرية الانتقال الديمقراطي في تونس، وتمهيد الطريق لاستحواذه جميع السلطات، ومصادرة المؤسسات، وتوظيفها لخدمة مشروعه. ويدرك سعيّد أنّ من شأن وجود هيئة انتخابات مستقلة الحدّ من تدخّله في توجيه مسارَي الاقتراعين المبرمجين في خريطة الطريق؛ وهما استفتاء 25 تموز/ يوليو 2022، والانتخابات البرلمانية المقررة في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022.
لم يكن تطويع هيئة الانتخابات التحدي الوحيد أمام الرئيس سعيّد للتهيئة لموعد الاستفتاء؛ فقد تواصل العزوف عن التسجيل في السجل الانتخابي كما كان عليه الحال في "الاستشارة الإلكترونية". ولمواجهة ذلك، دعا الرئيسُ سعيّد رئيسَ الهيئة المعيّن إلى اعتماد التسجيل الآلي واعتبار جميع التونسيين البالغين 18 فأكثر ناخبين، ومنحهم حرية اختيار مراكز الاقتراع يوم التصويت.
واجهت السلطات جميع التحرّكات المعارضة؛ المناهضة للاستفتاء، بعنفٍ مفرط
وعلى خلاف المحطّات الانتخابية التي شهدتها البلاد منذ عام 2011، مُنعت الأحزاب المعارضة من القيام بأي دعاية ضد مشروع الدستور، واقتصرت الحملة التلفزيونية المُبْتسرة والتسجيلات الإذاعية على عدد محدود من الأشخاص والجمعيات والأحزاب المساندة؛ وجلها أحزاب مشكّلة حديثًا، ولا تمتلك أيّ تمثيلٍ برلماني، باستثناء حركة الشعب. وقد اقتصرت الحملة على بعض الخِيَم في مراكز المدن، وعلى تعليق صور الرئيس سعيّد على واجهات بعض البنايات، ولم يتخللها أيّ مهرجان أو اجتماع شعبيّ.
واجهت السلطات جميع التحرّكات المعارضة؛ المناهضة للاستفتاء، بعنفٍ مفرط. ففي 22 تموز/ يوليو 2022 تعرضت وقفة احتجاجية نظّمها كلّ من حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وحزب التيار الديمقراطي، والحزب الجمهوري، والقطب الديمقراطي الحداثي، وحزب العمال، وهي أحزاب منضوية إلى "الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء"، وعدد من الصحافيين والناشطين المدنيين، لهجوم عنيف من قوات الأمن التي استخدمت الهراوات والغاز، وقامت بجر بعض القياديين المشاركين بالقوة وأوقفت عشرات منهم، وتعرض صحافيون يغطُّون الأحداث للضرب والتعنيف أيضًا.
جدل النتائج
فتحت مراكز التصويت أبوابها من الساعة السادسة من صباح يوم 25 تموز/ يوليو 2022 إلى الساعة العاشرة ليلًا من اليوم نفسه؛ وهي المرّة الأولى التي يمتد فيها توقيت التصويت 16 ساعة كاملة، في حين كانت المكاتب تُفتح في مناسبات التصويت السابقة من الثامنة صباحًا إلى السادسة مساءً. أما مكاتب الاقتراع المخصصة للناخبين المقيمين خارج تونس، فقد افتُتحت قبل ذلك بثلاثة أيام.
توجّه اهتمام جلّ المراقبين، منذ بداية الاقتراع، إلى نِسب المشاركة، وبدا واضحًا، من خلال ما نقلته وسائل الإعلام المختلفة من مراكز الاقتراع، الضعف الشديد في الإقبال؛ إذ اختفت الطوابير من أمام مراكز الاقتراع، وغابت المظاهر الاحتفالية، وغاب الحماس، وطغى حضور كبار السن، في حين تراجعت أعداد الشباب. ولم تنجح عدسات كاميرات الإعلام، بما فيه المؤيد للرئيس، في التقاط صور لحشود تشارك في التصويت.
بلغ عدد المقترعين داخل البلاد 2458985 فردًا من مجموع المسجلين البالغ عددهم 8929665 فردًا؛ أي بنسبة إقبال بلغت 27.54%، وفق ما أعلنت هيئة الانتخابات
لم يفوّت الرئيس سعيّد فرصة الاقتراع لمهاجمة خصومه، الذين وصفهم بـ "الخونة" و"اللصوص"، وتحميلهم مسؤولية الوقوف وراء ضعف الإقبال على التصويت، واتهامهم بتوزيع الأموال على المواطنين لشراء ذممهم، وتحريضهم على مقاطعة الاستفتاء، والتنكيل بالشعب عبر قطع الماء والكهرباء والمواد التموينية، وكأنهم هم الذين يحكمون البلاد، واصفًا الاستفتاء بأنه "ارتفاعٌ شاهقٌ غير مسبوق في التاريخ"، متعهدًا بمحاسبة خصومه ومحاكمتهم واسترجاع "آلاف المليارات" التي نهبوها.
إثر غلق مكاتب الاقتراع، أعلنت هيئة الانتخابات النتائج الأولية للتصويت. وبحسب الهيئة، بلغ عدد المقترعين داخل البلاد 2458985 فردًا من مجموع المسجلين البالغ عددهم 8929665 فردًا؛ أي بنسبة إقبال بلغت 27.54%، في حين شكّكت مؤسسات سبر آراء في الرقم المُعلَن من الهيئة، مؤكدةً أن نسبة الإقبال كانت أقل. وبحسب المصدر ذاته، فإنّ 3% من المشاركين في الاقتراع صوتوا بـ "لا"، في حين صوّت 92% بـ "نعم". أمّا بخصوص نتائج الاقتراع في الخارج، فقد راوحت نِسب المشاركة، وفق تصريحات لمسؤولي هيئة الانتخابات، بين 6% بأوروبا، و10% في الدول العربية.
نسبة المشاركة كانت أقل كثيرًا من نسبة المشاركة في أيّ انتخابات منذ الثورة
وعلى الرغم من نسب المشاركة المتواضعة جدًّا، حتى وفق النتائج الرسمية، فقد اعتبر الرئيس أن الاستفتاء نجاحٌ كبير يُعبّر عن إرادة شعبية قوية في المضيّ في التأسيس لنظام جديد والقطع مع الماضي، متعهدًا بمزيدٍ من الإجراءات لتحقيق ما وصفه بـ "إرادة الشعب"، أمّا "جبهة الخلاص الوطني"، كبرى مكونات المعارضة، فقد اعتبرت أنّ نتيجة الاستفتاء تظهر "فشل سعيّد وعزلته"، مطالبةً إياه بالرحيل، وداعيةً إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة.
وشكّكت الأحزاب المنضوية إلى "الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء" في النتائج المعلنة، ووصفت الاستفتاء بأنه "مزيّف"، متعهدةً بـ "مواصلة المقاومة"، ودعت، بدورها، الرئيسَ سعيّد إلى الاستقالة. وكانت نسبة المشاركة في استفتاء على هذا النحو حاسمة؛ إذ لم يسبقه نقاش في هيئة تمثيلية من أي نوع، ولا حوار وطني، ولا إجماع بين القوى المجتمعية، إضافة إلى أنه استفتاء على دستور، وليس مجرّد عملية انتخابية عادية. ولكن نسبة المشاركة كانت أقل كثيرًا من نسبة المشاركة في أيّ انتخابات منذ الثورة.
ما بعد الاستفتاء
أظهرت النتائج الأولية للاستفتاء التي أعلنتها هيئة الانتخابات، وشكّكت فيها المعارضة، أنّ رُبع الناخبين، فحسب، توجّهوا إلى مراكز الاقتراع. وتشير هذه النسبة إلى فشل الرئيس في إقناع أغلبية التونسيين بالمشاركة في التصويت، فضلًا عن الانخراط في المسار الذي أطلقه والموافقة عليه؛ إذ لم تنزل نسبة المشاركة، في جميع الاستحقاقات الانتخابية السابقة، إلى 55% أو أدنى.
ويكتسب الجدل المتعلق بضعف نسبة المشاركة أهميةً أكثر؛ بالنظر إلى طبيعة هذا الاستحقاق، فالاستفتاء على الدستور يختلف عن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية، باعتباره تأسيسًا لعقد اجتماعي مرجعي طويل الأمد يتطلب توافقًا واسعًا، وانخراطًا لمختلف المكونات الاجتماعية والسياسية والمدنية.
ورغم الجدل الذي خلفته نسبة المشاركة المتواضعة، مقابل المقاطعة الواسعة في الاستفتاء على مشروع الدستور، يستمر الرئيس سعيّد في تنفيذ مشروع تكريس كل السلطات بين يديه؛ إذ يتّجه في المرحلة التالية إلى تنظيم الانتخابات البرلمانية المقرّرة في كانون الأول/ ديسمبر 2022، ولا تبدو أيّ مؤشرات دالّة على إمكانية تعديله لمساره، أو إنصاته لدعوات المعارضة.
سيمضي سعيّد في صياغة قانون انتخابي يُقصي فيه الأحزاب من المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقرّرة أواخر عام 2022، وأنه سيجعلها مقتصرةً على الأفراد
وتذهب جلُّ المؤشرات الموضوعية إلى أن الرئيس سيمضي في صياغة قانون انتخابي يُقصي فيه الأحزاب من المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقرّرة أواخر عام 2022، وأنه سيجعلها مقتصرةً على الأفراد؛ وذلك في عملية ممنهجة لتهميش كل أشكال التنظيم السياسي في المجتمع. غير أن جلّ المؤشرات تُظهر أن مهمته لن تكون يسيرة؛ بالنظر إلى اتساع الشارع المعارض، مقارنةً بما كان عليه الحال بعد الانقلاب الذي نفّذه قبل عامٍ، وبالنظر إلى تراكم الإخفاقات في الملفات الاقتصادية والاجتماعية كافةً، وتردّي الخدمات، وتدهور مستوى المعيشة، وتنامي الدَّين العام للدولة، وهي التحدّيات التي تعامل معها الرئيس سعيّد، حتى الآن، بردود فعلٍ شعبوية ثبت قصورها.
خاتمة
من خلال تنظيم الاستفتاء على مشروع الدستور، خطَا الرئيس سعيّد خطوة أخرى في مسار تفكيك المسار الديمقراطي التونسي، والتأسيس لنظام سياسي جديد يصادر بمقتضاه جميع السلطات. ورغم تهيئة السياق العام للاستفتاء؛ بتعيين هيئة انتخابات جديدة، وتسخير إمكانات الدولة، وتعبئة وسائل الإعلام، ومنع المعارضين من الدعاية ضد الاستفتاء في وسائل الإعلام الأساسية، فقد أظهرت النتائج المعلنة مقاطعةً واسعة للتصويت. ومع ذلك، يبدو سعيّد ماضيًا في استكمال خريطة الطريق التي أعلنها، على نحو يسمح بفرز مشهد سياسي جديد قادر على توجيهه؛ وذلك في وقتٍ تتفاقم فيه الأزمة الاقتصادية والمعيشية، وهو ما يمهّد الطريق لموجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية.