الاستعمار وقطع ذنب الكُرّ

04 نوفمبر 2018
+ الخط -
قصة جميلة، رواها لي صديقي العزيز الأديب عقاب يحيى، ملخصها أن شاباً فقيراً، منحوساً، حصل في أوائل السبعينيات على الشهادة الثانوية، بشقّ النفس، وبمجموعٍ قليل لا يكفي للتسجيل في أية كلية جامعية أو معهد متوسط، فَتَقَدَّمَ بأوراقه الثبوتية لمديرية التربية في محافظة حماه، طالباً تعيينه في وظيفة معلم وكيل. ويبدو أن تلك المديرية كانت تبحث عن معلمٍ يقبل الذهاب إلى تلك القرية النائية التي رَفَضَ أكثرُ من معلمٍ العمل فيها. أما هو فوافق، والتحق بالمدرسة، فوجدها أقرب إلى الزريبة، لا يوجد فيها معلم أو مدير أو آذن سواه. أما طلابُها فترتسم على وجوههم علائم الفقر والشقاء.
الشاب المذكور هو من البعثيين القدامى، المؤمنين بالأفكار القومية، وبأن الرفيق البعثي يجب أن يحارب بشراسة ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية.. ولذلك قرّر أن يُنْشِئ تلاميذَ القرية البؤساء على فكر "البعث"، وصار يقف في الاجتماع الصباحي، أمامهم، ويضم يديه إلى جنبيْه، مثل عسكريٍّ مجندٍ يقف في حضرة قائد اللواء، ويردّد أمامهم شعارات "البعث"، علماً أنه لا يوجد تلميذ واحد منهم يعرف شيئاً عن الوحدة أو الحرية أو الاشتراكية أو الأمة العربية الواحدة..
هنا نصل إلى عقدة القصة. لو أن ذلك الرفيق بقي خمسين سنة يردّد الشعار ويخطب ويهتف ضمن إطار مدرسته، لما علم بأمره أحد. لكنه، وإمعاناً منه في ممارسة النضال، كتب إلى مديرية التربية وأمانة فرع الحزب والأمن السياسي في حماه أنه سائر على دروب النضال، وملتزم بالواجب الحزبي.. وشرح لهم تفاصيل ما يفعله في الاجتماع الصباحي. وقتها، عَيْنُكَ لا ترى إلا النور، إذ عَجَّتْ، عند مدخل القرية الشرقي، زوبعةٌ من الغبار، تكشّفت عن سيارة لاندروفر أمنية تابعة لفرع الأمن السياسي في حماه، اقتحمت المدرسة، واعتقلته، ونقلته، تحت الضرب واللكز والسباب، إلى الفرع. وبعدما وضعوه ضمن الدولاب، وضربوه ما تيسّر من العصي، أوصلوه إلى مكتب المحقّق الذي اتهمه بأنه رجل مشبوه. وقال له: تدعو إلى الوحدة؟ مع مَنْ تقصد ولاك حيوان؟ مع عراق صدام، أم مع مصر عبد الناصر، أم مع ملك آل سعود؟ تقول إنك تريد الحرية؟ تعني أننا مستبدّون؟ وتريد اشتراكية؟ وهل تشك بأننا اشتراكيون؟
اختتمت هذه العملية بطلبٍ مفادُه بأنه قد أصبح من واجبه المسكين أن يتعامل مع فرع السياسية سراً، ويكتب إليهم تقارير مفصلة عما يجري في القرية من أعمال مشبوهة، تهدّد أمن الوطن.
تناسى المعلم عملية كتابة التقارير، ليقينه بأن أهالي القرية يعيشون خارج التاريخ والجغرافيا والسياسة، فماذا يكتب بحقّهم؟ ولكنه تلقى رسالة من الفرع يسألونه فيها عن سبب تقاعسه في واجبه الأمني، مع تهديدٍ صريحٍ بأنه إن لم يكتب فسيعيدون تأديبه.. عندئذٍ، أحضر ورقة وقلماً وكتب ما يأتي:
سيدي العقيد رئيس الفرع، أحيطكم علماً أن أهالي القرية أناسٌ مشبوهون، مناهضون لأهداف حزبنا، لا أستبعد أن تكون لهم علاقاتٌ وطيدةٌ مع الإمبريالية والاستعمار والرجعية.. كلامُهم، حينما أكون أنا موجوداً بينهم كله ملغوزٌ ومشفر، فبتاريخ السادس من الشهر الماضي تشاجرت أم محمود مع أم غازي حول دجاجة برشا، وقالت إن بيضتها أكبر من بيضات دجاجة أم غازي، وهي ذاتُ صفارين. وفي اليوم نفسه، حضر البياع أبو قدري، فتجمع حوله أهل الضيعة في الساحة العامة، وصار يبادل الخيطان وإيشاربات البنات على العدس والقمح والبيض.. والأدهى من هذا، يا رفيق، أن كلب أبي فريد تشاجر مع كلبة أبي حسون، وهجم كرّ أبي صطيف على حاكورة أم صخر، ونشبت على إثرها معركة كلامية حادّة، إذ تدخل أبو صخر وحلف يميناً معظّمة على أنه سيقطع ذنب الكر. هل تعلمون، سيدي، ماذا يعني قطع ذنب الكر؟ إنهم يخططون لتقطيع أوصال الوطن العربي، والحفاظ على حالة التجزئة والتشرذم.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...