الاستعلاء الطبقي في لبنان
للنظام اللبناني، في تكوينه، ثابتة أساسية: الاستعلاء الطبقي، الذي أتاح لكل الطوائف، تقريباً، التمتع بها فترات زمنية متفاوتة. تبدّل سيطرة الطوائف على حكم لبنان لم يلغِ هذه الثابتة، بل تمّ تعميمها على شرائح المجتمع كافة. لذلك، حين يخرج رؤساء ووزراء ونواب، ويتحدّثون بطريقة فوقية مليئة باللامبالاة وعدم الاكتراث، علينا أن نفهم أن أسلوبهم ليس مصطنعاً، بل حقيقي، وينبع مما يمكن اعتباره "علم سلوك النظام اللبناني". وهذا العلم لا ينتهي بصندوق اقتراع ولا بتظاهرة شعبية محدّدة، بل بواحد من مسارين: ثورة تقطع مع ماضٍ مليء بالموبقات الفكرية والسياسية (أمر غير وارد حالياً)، أو تشكيل مسار قانوني طويل تتم ملاحقة كل تفصيل فيه (ترف في الوقت الراهن في لبنان لاعتبارات عدة).
بالتالي، حين تسمع جملة أو نصيحة أو كلمة من مسؤول لبناني، يحقّ لك أن تُصاب بالجنون، وأن تقف مذهولاً حيال ما يقوله. آخر هؤلاء وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر. قال، أخيراً، في معرض حديثه عن رفع الدعم على المشتقات النفطية في لبنان: "من يملك المال يملأ خزان سيارته، ومن لا يملك المال يفتش عن وسيلة أخرى". يتصرّف الوزير وكأنه حلّ بالأمس زائراً على لبنان، وليس كأنه أحد الأطراف الأساسية في ملف الطاقة، ففي سيرته التي تمّ نشرها مع تعيينه وزيراً في يناير/ كانون الثاني 2020 ما يلي: "شغل في فبراير/ شباط 2008 منصب كبير مستشاري وزير الطاقة لشؤون السياسات. وتولّى في هذا الإطار قيادة مجموعة صغيرة من الخبراء، كانت مهمّتها توجيه عمل المستشارين والتنسيق مع الجهات المعنية الأساسية، مثل مؤسسة كهرباء لبنان، مجلس الإنماء والإعمار، المجلس الأعلى للخصخصة، الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي. كما وَضع الدكتور غجر سياسة الطاقة التي أقرّها مجلس الوزراء في 21 يونيو/ حزيران 2010، واسمه مدرَج أيضاً في قائمة البنك الدولي للخبراء المتخصصين بالدراسات في مجال الطاقة".
إذاً، من المفترض أن مثل هذه السيرة توحي بالثقة بين مسؤول ومواطنين، وتؤدّي إلى تطوير قطاع الطاقة، بما يسمح في زيادة الاستثمار في البنى التحتية في لبنان، وصولاً إلى طيّ صفحة الانقطاع المزمن للكهرباء في البلاد. لكن الافتراض ليس أمرا واقعا في لبنان. غجر، كما غيره، سيلوم "الآخرين" في عدم نجاح خطته أو أفكاره، ولن يستقيل "لأن الاستقالة ضعف"، ولن يواجه "لأن الآخرين معروفون"، على الرغم من كونه متغلغلاً في قطاع الطاقة والمشتقات النفطية منذ 13 عاماً، أي أنه يعرف كل تفصيل فيه. ويُمكن أن يقدّم الشكاوى للقضاء في هذا الصدد، أو أقله يعقد مؤتمراً صحافياً ليقول للمواطنين الحقائق أو ما يعرفه. هنا لم يبقَ لاتهامه أو "فشّ الخلق فيه" سوى الفريق الأضعف في هذه الدوّامة: المواطن. والطريقة الأنسب للتعامل مع المواطن هو "الاستعلاء الطبقي". لا يهمّ هذا الوزير كيف سيتعامل اللبنانيون مع ملفات الكهرباء والوقود والغاز في غياب البدائل الفعليه من وسائل نقل أو طاقة شمسية أو ما شابه، وسيجد أشخاصاً يقفون إلى جانبه ويؤيدونه. وهو أمر طبيعي تاريخياً، فعبيد روما دافعوا عن أسيادهم وماتوا عنهم.
غجر، في العنوان العريض، ليس سوى تفصيل أمام أطرافٍ تبدو وكأن النظام اللبناني، بصيغتي 1943 واتفاق الطائف 1989، وبأي صيغة مستقبلية ذات منحى طائفي، صُنع لأجلهم. ويدرك غجر، كما هؤلاء، أنهم أقوى مما يظنون، لأن العبيد، الذين لا يتمتعون بخاصيّة التفكير الحرّ، سيهاجمون كل من ينتقده أو ينتقد أمثاله. وهو نموذجٌ لا يقتصر على "أنصار" الوزير، بل أيضاً على أنصار باقي الأحزاب، ما تجلّى بقول سيدة في تظاهرة حزبية، باسم الاحتجاج الاجتماعي، أول من أمس الخميس، إنها "تتظاهر ضد المواطن قبل السلطة". إنه البؤس.