الاتجاهات والخيارات في الانتخابات التركية ... ثورة ديمقراطية وتنافس سياسي
على مدى عام كامل، شغل انعقاد الانتخابات العامة التركية اهتماماً واسعاً لدى الأحزاب السياسية، حيث جرى النظر إليها من نقطتين متباينتين، إما استمرار الوضع الحالي وتطوير مشروعه للتحوّل السياسي وتحالفاته الاجتماعية أو العودة إلى النظام البرلماني واستعادة شبكاته وأفكاره السياسية. ويساعد تحليل الانتخابات في الاقتراب من أولويات المشاركين في الانتخابات، وخصوصاً في ظل الانقسام بشأن النظام السياسي وتصورات القومية وتأثيرها على مشروع التحوّل السياسي للحزب الحاكم وتطلعاته للانتقال من الثورة الصامتة للثورة الديمقراطية، حيث وضع الاستقطاب السياسي الدولة بين خيارين، إما استمرار مسار الانفتاح القومي أو العودة إلى التقاليد العلمانية القومية. وفي وسط التنافس السياسي، تبدو أهمية تناول السياسات الاجتماعية وقدرتها على تجديد النخبة الحاكمة والتمكين الديمقراطي.
الاتجاهات القومية في الخطاب السياسي
وفي طريق الاستعداد للانتخابات، انتهت المشاورات لتكوين تحالفين رئيسيين. ويمثل تحالف الجمهور التيار المحافظ في السياسة التركية، ويُجمع في عضويته أحزاب الهدى بار، الرفاه من جديد، بجانب الحركة القومية، ويتبنّى التعددية الثقافية واحترام القيم الدينية، فيما يتشكّل تحالف الأمة من خليط من الأحزاب القومية، كالشعب الجمهوري والجيد، والمحافظة كالمستقبل، السعادة والديمقراطي، ولم يقدّم رؤية متماسكة تجاه المسألة الثقافية أو القومية، وظهرت خلافات حول دعم حزب الشعوب الديمقراطي ووضع الإفراج عن قياداته ضمن الوعود الانتخابية.
وبشكل عام، بدت الحملات الانتخابية معركةً صفريةً لدى التحالفين الرئيسيين. فمن جهته، اعتبر تحالف الجمهور الانتخابات نقطة حرجة بين خيارين، إما الاستمرار في برنامج إعداد الجمهورية للقرن المقبل أو الخروج من المشهد السياسي وتوقف مسار التغيير الثقافي. ووفق هذه الموازنة، وضع استراتيجية تحويل الأزمات إلى فرص، تصدّى فيها لتداعيات الزلزال الكبير. وفي هذا السياق، يمكن قراءة ترشيح الوزراء على القوائم الانتخابية نوعاً من عرض الثقة في الحكومة على الإرادة الشعبية، كما يعكس الالتزام باللائحة الداخلية في استبعاد البرلمانيين ثلاث دورات من الترشيح احتراماً للمؤسسية، رغم المخاطرة بالوجوه الجديدة في مرحلة تحوّل مصيرية.
شهدت النزعة القومية تراجعاً عندما تلاقت كل الأحزاب على مفهوم وسط يُفسح الطريق للتنوّع الثقافي
ومن جهة تحالف الشعب، رغم اختلاف مرجعياته الفكرية، تبنّى هدف استعادة الجمهورية على أساس وجود قناعة بكفاية تحسين العلاقة مع الغرب لإصلاح الاقتصاد والتنمية. وفي هذا السياق، قامت أفكار البرنامج الانتخابي على مراجعة آثار حزب العدالة والتنمية في نظام الحكم والعودة إلى القومية، وكانت الجولة الثانية أكثر وضوحاً في الفقر السياسي بانشغال الدعاية الانتخابية الفائق ببند اللاجئين بنمط تحريضي يفتقر للموازنة بين مقتضيات التحالف والالتزام بالقانون، حيث سادت مزايدة بعد التحالف مع الاتجاه القومي المتطرّف. ويمكن قراءة إثارة مشكلة اللاجئين واحدةً من مظاهر التوظيف السياسي لرفض التنوع الثقافي، ويتكامل معها الحديث عن منح المناطق الشرقية الحكم الذاتي حلا لمشكلة التعدّدية الثقافية.
وفي سياق التدافع بين تياري المحافظين والعلمانيين، انشغلت الدعاية الانتخابية بجدل الهوية، فللمرّة الأولى، لم تنته حملة المرشّحَين عند تقليد زيارة ضريح أتاتورك ذي الرمزية القوية. وبينما حرص كمال كلجدار أوغلو على زيارته، ختم رجب طيب أردوغان حملته بالصلاة في أيا صوفيا. وبالنظر إلى الخلاف حول تثبيتها مسجداً أو إعادتها متحفاً، يدور النقاش السياسي بشأن طبيعة الهوية السياسية للجمهورية، فعلى مدى الحملة، استمرّت حملة "العدالة والتنمية" في استدعاء الرموز المحافظة كزيارة أضرحة عدنان مندريس ونجم الدين أربكان وتورغوت أوزال، بالإضافة إلى عدة مساجد، وهي إشارات إلى صناعة رموز الجمهورية على أساس من الهوية الدينية والارتباط بالجذور التاريخية.
على أية حال، شهدت النزعة القومية تراجعاً عندما تلاقت كل الأحزاب على مفهوم وسط يُفسح الطريق للتنوّع الثقافي. لم يشغل الخطاب القومي المتطرّف سوى فترة قصيرة من حملة المعارضة، ولأسبابٍ انتخابية، زادت النزعة القومية لدى الشعب الجمهوري، غير أنه تراجع عنها بعد ظهور انتقادات من حلفائه، وقدّم تصحيحاً، استند فيه إلى احترام القانون الدولي في حماية الحقوق الإنسانية للاجئين. وفي سياقٍ مشابه، يمثل خطاب سنان أوغان نوعاً من المراجعة السريعة للخطاب القومي، فقد وضع تصوّراً لمستقبل الدولة يقوم على واقعيةٍ بعيدةٍ عن التطرّف. وهي ذات تقييمات تحالف الشعب في الجولة الثانية من الانتخابات.
يمكن ملاحظة استقرار السِلم الديمقراطي وبث الثقة في العملية الانتخابية
وخلال عملية الانتخابات، تعمل التنافسية بين التيارين الكبيرين على تكوين ثقافةٍ سياسيةٍ لدى المرشّحين تقوم على تعزيز التواصل مع الجماهير، بالإضافة إلى التعليم المستمرّ على التخاطب المباشر. هذا ما تشير إليه جولات رؤساء الأحزاب ومرشّحي رئاسة الجمهورية في أرجاء المدن للتلاقي المباشر مع الشعب، فرادى وفي المؤتمرات، ما يفرض الحاجة الدائمة لتطوير الخطاب السياسي.
ومن السمات البارزة، أنه على الرغم من الخلاف في قضايا أساسية، يمكن ملاحظة استقرار السِلم الديمقراطي وبث الثقة في العملية الانتخابية، ليس بقبول سريعٍ من المعارضة فقط، ولكن بدا واضحاً مع التطلع إلى جولة أخرى في الانتخابات البلدية في العام المقبل. وظهرت هذه التوافقات في تقارب الخطاب السياسي تجاه الاحتفال بفتح القسطنطينية باعتباره تاريخاً مشتركاً للمجتمع التركي. وهنا، يكشف الحراك الحزبي في أثناء الانتخابات عن القابلية لإعادة صياغة الفكر السياسي، والنظر في قضايا القومية والسياسة الخارجية، بجانب انفتاح تحالف الجمهور على العلاقات الدولية، يمكن لأحزاب المعارضة مراجعة موقفها المركزي تجاه القيم الغربية.
التحوّل المحافظ
أسفرت نتائج الانتخابات العامة في تركيا عن استمرار استحواذ تحالف الجمهور على الأغلبية التشريعية بعدد مقاعد 323 من إجمالي 600 مقعد، كما فاز برئاسة الدولة، ما يشكّل فترة متصلة من حكم "العدالة والتنمية" بلغت 21 عاماً. لا تقتصر أهمية النتائج في تواصل فترة الحكم بقدر ما تعكسه من عمليةٍ تراكميةٍ في السياسات العامة والانتقال الاجتماعي. وحسب توزيع المقاعد، يُعد "العدالة والتنمية" الحزب الوحيد الحاصل على مقاعد في كل الدوائر الانتخابية، فيما اتسم أداء الأحزاب الأخرى بالتمثيل المحلي.
تستقرّ معدلات التصويت لتحالف الجمهور، رغم خوض كثيرين من مرشّحيه الانتخابات للمرّة الأولى
وعلى خلاف الانتخابات السابقة، أجريت الانتخابات في سياق كوارث طبيعية ومصاحبة للأزمات التقليدية للنظم السياسية. ولذلك، يأخذ تحليل النتائج في الاعتبار، جاءت اتجاهات التصويت مثيرة للاهتمام، وكان متوقّعاً أن تكون مناطق الزلزال فجوة تصويتية للحزب الحاكم، غير أن اتجاه التصويت لصالح الحكومة بأغلبية فارقة بمتوسط 70%، وهي نسبةٌ غير مسبوقة في هذه المناطق. فيما شهدت الولايات الأخرى تغيّرات محدودة، حيث بقيت اتجاهات التصويت ضمن هامش التغير المرتبط بالعوامل المحلية. وبشكل عام، تُمثل هذه النتائج عامل ثقةٍ في قدرة الحكومة على امتصاص صدمة الآثار الطارئة ومعالجتها في فترة ثلاثة أشهر، تم فيها تمكين السكّان من الحياة العادية، وذلك بجانب خفض آثار التضخّم على المستهلكين.
وخلال العشر سنوات الماضية، شهد الاتجاه العام للانتخابات التشريعية تغيّراً نسبياً في تركيبة "الجمعية الوطنية الكبرى"، ما بين تياري "العدالة والتنمية" وتحالفاته من جهة، و"الشعب الجمهوري" وتحالفاته من جهة أخرى، غير أن نتائج الانتخابات الرئاسية عكست تغيّراً محدوداً، فمنذ 2014 تراوحت نسب فوز الرئيس أردوغان بين 51.18% و52.82%. وبهذا المعنى، يعكس نمط التصويت بقاء اتجاهات الناخبين على خيارات مستقرّة، وقليلة التأثر بالبرامج الانتخابية أو الظروف الاقتصادية أو التحوّل الصناعي وغيرها من العوامل الأخرى.
ووفق التحليل الكيفي، وحسب اتجاهات الناخبين، تستقرّ معدلات التصويت لتحالف الجمهور، رغم خوض كثيرين من مرشّحيه الانتخابات للمرّة الأولى، وانعقاد الانتخابات في ظروف بالغة الصعوبة، وخصوصاً بعد زلزال واسع التدمير، وهو ما يعكس جدارة الأحزاب المحافظة في الحصول على الرضا الشعبي والاستمرار في السلطة فترة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية، مكّنتها من تعديل السياسات العامة، وتقديم نخبة جديدة لجهاز الدولة، ما يمكن أن يشير إلى ثورة ديمقراطية جمعت ما بين الانتقال السياسي والتحوّل الاجتماعي.
تكشف نتائج الانتخابات في العقدين الماضيين عن تراجع النخبة التقليدية للجمهورية
وعلى خلاف تطور التحالف الحاكم، تشهد أحزاب المعارضة حالةً من تداعي الإمكانات، وبغض النظر عن تنافرها، صار تماسُكها الذاتي مثار نقاش تنظيمي يميل نحو التفكّك. ومع بقائها فترة خارج السلطة واهتزاز خطابه الانتخابي، يمكن مقاربة التصويت لصالحها نوعاً من الالتزام الأدبي، سوف يتوقف استمرارُه على ظهور قياداتٍ جديدة، وخصوصاً بعد اضمحلال القدرات التنافسية لعدة دورات انتخابيةٍ متتالية.
تنعكس هذه التباينات في تركيبة البرلمان، حيث يحوز خبراتٍ ساهمت في تشكيل ملامح الدولة في العقدين الماضيين، فعلى جانبي الحكومة والمعارضة، يهيمن الاتجاه المحافظ على النخبة النيابية، حيث تتشكّل غالبية عضوية البرلمان من الوزراء الحاليين والسابقين على مدى العقدين الماضيين، ليصبح من المؤسّسات القوية. كما يساعد الالتزام بقاعدة منع البقاء في المجلس أكثر من ثلاث دورات على انسياب البرلمانيين السابقين نخبة اجتماعية، تراكم لديها نوعٌ من الرأسمال السياسي. تشكّل هذه التركيبة قاعدة الانتقال السياسي والاجتماعي المحافظ.
وعلى الوجه الآخر، تكشف نتائج الانتخابات في العقدين الماضيين عن تراجع النخبة التقليدية للجمهورية، ووفق مؤشّرات النتائج الإحصائية، لا يتمتّع التيار العلماني/ القومي باستجابة كافية لتحدّيات التنوع الثقافي أو التكيّف مع تراجع احتياج مجموعة أوروبا الغربية والولايات المتحدة تركيا في فترة ما بعد الحرب الباردة، وظل مُتبنّياً للانفتاح على الغرب اختياراً أساسياً. وهنا، يمثل رؤساء البلديات الكبرى في إسطنبول وأنقرة وإزمير الشخصيات البارزة لحزب الشعب الجمهوري، والتي تقوم بدور التعبير المرحلي عن الخيارات الفكرية والسياسية لقطاع كبير من اليسار التركي.
ولعله من النتائج المهمة، ما يتمثل في قدرة المجتمع على امتصاص التطرف القومي. فعلى الرغم من الإثارة الحادة لمشكلات السوريين تحت الحماية المؤقتة، انصرفت اتجاهات التصويت عن تحالف الأجداد وحزب النصر، حيث لم يحصل سوى 2.5% من أصوات الناخبين. وهنا، تشير النتائج إلى انحياز المجتمع للتنوع والوسطية. وبدت مرونة الحكومة في اقتراح تصوّر يقوم على احترام القانون والعودة الطوعية الكريمة بعد تأهيل المناطقة المَارّة من الحرب. وفي السياق نفسه، لم يستطع الشعب الجمهوري الثبات على موقف معاداة اللاجئين، فبعد وقت قصير، اتّجه إلى تخفيف حدّة النزعة القومية، مشيراً إلى الالتزامات القانونية وحقوق الإنسان.
تبنّى "العدالة والتنمية" برنامج السلام مع حزب العمّال في 2006 لإنهاء العنف وتنمية مناطق الشرق
السياسات العامة والاستمرار الديمقراطي
ويساعد تحليل السياسات العامة في تقديم تفسير لصعود التيار المحافظ واستقراره في مركز السياسة التركية، فمنذ وصول "العدالة والتنمية" إلى السلطة في 2002، تبنّت الدولة حزمة سياسات لتعريف الحقوق الثقافية والاجتماعية في الجمهورية، وقدّم تعريفا لحياد الدولة تجاه الدين والثقافة، حيث يترك للأفراد حرية التعبير. في البداية، جرى الاعتراف بالحقوق اللغوية وإعادة توزيع التنمية على الولايات، وتمكّنت من إجراء عملية تحديث ومراجعة للسياسات الاقتصادية، رفعت من كفاءة التكيّف مع النظام العالمي ودخول نطاق الدول الصناعية الجديدة.
وفي السياق نفسه، تبنّى "العدالة والتنمية" برنامج السلام مع حزب العمّال في 2006 لإنهاء العنف وتنمية مناطق الشرق، غير أن امتناع الحزب عن نزع سلاحه أوقف مسار السلام. أسفرت هذه السياسة عن نتيجتين: أهمها تهميش الجماعات المتمرّدة وانخراط الكرد، تدريجياً، في أحزاب وجماعات تتبنّى الاندماج في الدولة. أسفرت هذه العملية عن تراجع تمثيل الجناح السياسي لحزب العمّال من 13% في انتخابات 2015 إلى 8.4% في انتخابات 2023. ويمثل ظهور حزب "هدى بار" واحداً من نتائج الاعتراف بالتنوّع الثقافي، فيما تظلّ مطالب الانفصال مرتبطة بتلقّي المنظمات اليسارية دعماً من الغرب وإسرائيل.
وعلى أية حال، مَهّدت السياسات التالية لمحاولة الانقلاب في 2016 الأرضية لبناء شبكات الديمقراطية وتقليص التداخل بين الجيش والمؤسّسات المدنية، كانت مبادرة تعديل النظام السياسي واحدة من ملامح الانتقال السياسي والخروج من تَحكّم أحزاب الأقلية، وتعطيلها العمل اليومي للحكومة، فخلال مرحلة الجمهورية، أظهر النظام البرلماني الانقسامات وتشتّت السلطة، ولم يُقدم معالجة لتنوع الأفكار والثقافة، ما شكّل مدخلاً إلى عدم استقرار الحكومات. وكان طرح النظام الرئاسي مركزة السلطة وتوزيعها بين الرئيس والبرلمان على أساس الفصل المرن لسرعة التكيف مع الحاجات الداخلية والتقلبات الخارجية.
وبشكل عام، أدّت سياسات العقدين الماضيين لتهيئة المناخ على جانبي التنوع الثقافي وتفكيك معوقات الديمقراطية والحكم المدني، وحدوث انتقال اجتماعي مصحوب بشبكات الثقة بين المجموعات المحافظة ودمجها في الدولة. ومن الملاحظ أن مساهمة القيادة حاسمة في اختيار السياسات الاجتماعية، فقد تمتّع الرئيس أردوغان بقدراتٍ تفاوضية وابتكارية في إدارة التنافس والتوافق داخل النظام السياسي، وهي توجّهات تتزايد فرص تطويرها في ظل الحرية النسبية لصنع القرار وتماسك التحالف الحاكم.