الإنسان يبحث عن المعنى
يشيع في الكتابات الغربية عن السرطان نقاش كيفية التعامل مع السؤال النمطي للمرضى: لماذا أنا (?Why me). يدرج المعهد القومي الأميركي للسرطان السؤال تحت فئة التعامل مع مشاعر الغضب، وهو غضبٌ قد يتفجر من المريض نحو الذات أو الأسرة أو الطاقم الطبي أو حتى الله. والنصيحة النمطية هي في الحديث عن ذلك الغضب مع الدائرة الأقرب أو المعالج النفسي، ثم تحويله إلى طاقة رد فعل تحفّز العلاج. لكن إجابة مختلفة نجدها عند الطبيب النفسي النمساوي، فيكتور فرانكل، والذي ابتدع مدرسة "العلاج بالمعنى"، حيث تنطبق على مختلف أوجه المعاناة الإنسانية من أمراض وغيرها.
في كتابه "الإنسان يبحث عن المعنى"، يسرد فرانكل تجربته الملهمة، حيث تم اعتقاله سنوات في أحد معسكرات الموت النازية. تعرّض للتعذيب، وارتدى الأسمال، وشهد رفاقه يساقون أمام ناظريه إلى الأفران. وسط كل هذه الأهوال، انشغل بالرصد الدقيق للأنماط النفسية للسجناء، وثّق حيلهم النفسية الدفاعية، مثل تبلد المشاعر أو المرح المصطنع الصاخب. أبرز ما توصل إليه أن السجناء الذين عجزوا عن إيجاد أي معنى لمعاناتهم كانوا عرضةً للانتحار أو للموت السريع، بعد انهيار مقاومة أجسادهم، حتى أن سجينا تعشّم أن تنتهي الحرب قبل ليلة أعياد الميلاد، فإذا به هو من ينتهي في ذلك التاريخ تحديدا. قتله اليأس. بينما من صمدوا هم من أمكنهم إيجاد معنى ما لمعاناتهم. كان يسأل السجناء، ولاحقا المرضى المعانين في عيادته: لماذا لم تنتحر حتى اليوم؟ قد يكون المعنى قيمة سياسية أو إنسانية كبرى. نحن نسجن لأجل صعود الشيوعية أو الديمقراطية. وقد يكون المعنى أمرا بسيطا شخصيا مباشرا، كما في حالته الخاصة، قال فيكتور إن ما أبقاه هو وعده زوجته أن يراها.
وفي أوقات أخرى، كانت الأولوية أن يكون للموت نفسه معنى. وبالتالي، شهدنا الدكتور فرانكل الذي طالما تحمّل الإهانات ورفض أي تمرّد حرصا على حياته، نشهده هو نفسه يتطوّع ليعالج مصابي تيفوس، وينتقل معهم، على الرغم من خطورة ذلك الشديدة. قال إنه لو مات، وهو يحاول إنقاذهم، فسيكون راضيا عن ميتةٍ لها معنى.
يمثل فرانكل مدرسة فيينا الثالثة للعلاج النفسي، والتي لم تحظ بذيوع شهرة مدرستيّ فرويد وإدلر، فإذا كان فرويد يمنح الأولوية لصالح "إرادة اللذة"، بينما يركز أدلر على "إرادة المكانة"، فإن فرانكلين لا يعارضهما، لكنت ترى كلتا الرؤيتين جزءا من صورةٍ أوسع، هي "إرادة المعنى".
وفي الطريق للوصول إلى تحقيق هذا المعنى المتسامي خارج الإنسان، يجد الإنسان نفسه يحصل، كعرض جانبي، على تعويضاته النفسية الخاصة من اللذة ومن "تحقيق الذات". ولكن لا يمكن اعتبار "تحقيق الذات"، في حد ذاته، معنىً كافيا تدور حوله حياة الإنسان ومعاناته. وفي غياب المعنى، سيشهد الإنسان معاناة نفسية من "الخواء الوجودي"، سواء صحبتها أنواع أخرى من المعاناة أم لم تصحبها. ومن هذه الزاوية، قد يكون الاشتباك الواعي مع الشأن العام، سواء بجوانبه السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، هو ما ينقذ الإنسان من فراغه، شريطة ألا تكون الأضرار النفسية المحتملة الناجمة عن هذا الاشتباك أكبر من أرباحه!
ينتقد فرانكل ما يسميها "الحتمية الشمولية"، حيث ترى تلك النظرة الإنسان مفعولا به على الدوام، تتقاذفه الأمواج النفسية والحياتية، من دون أن يملك تغييرا، كما يدعو إلى "إعادة أنسنة الطب النفسي"، حيث سادت نظرة تتعامل مع عقل الإنسان باعتباره نظاما آليا "ميكانيزم"، وبالتالي يمكن علاج أمراضه المعقدة على أساس أنها مجرّد تقنيات "تكتيك".
يقول فرانكل: الإنسان ليس مشروطا أو محتوم السلوك بصورة كلية، لكنه يقرّر نفسه .. الإنسان ليس ببساطة أمرا موجودا، بل هو يقرّر دائما وجوده الذي سيكون عليه.