الأولويات التائهة في مصر

18 ابريل 2022

(صالح طاهر)

+ الخط -

الفساد في الأغذية موجود دائماً في دول كثيرة، لكنّ دولاً أخرى كثيرة تحترم آدمية الإنسان، وتعتبر حياته وصحته أولويتيها القصويين. ولهذا نجد أنّ شرائح واسعة من المجتمعات المتقدّمة صارت تقتصر في غذائها على الأطعمة العضوية التي تعتمد على مكونات الطبيعة فقط وبشكل كامل، من البذور الزراعية إلى مياه الري والتسميد ثم التخزين والتغليف، وحتى الوصول إلى يد المستهلك النهائي. 
لكن الوضع في الدول العالمثالثية بعيد تماماً عن هذا المستوى من الرقي الغذائي، وعن الحرص الرسمي على التدقيق فيما يستهلكه المواطنون، فالأصل في هذه الدول المتخلفة تأخير أولوية المواطن لصالح أولويات أخرى كثيرة، في مقدّمتها بقاء نظام الحكم وتأمين استقراره. وبالتالي، لا مشكلة على الإطلاق لدى هذه النظم في التغاضي عن أيّ انتهاكات أو أوجه خلل وفساد لا تتعارض مع هذه الأولوية، إن لم تكن تخدمها. 
في ضوء هذا النمط العام، يمكننا قراءة حزمة الأخبار السيئة والمأساوية التي تقذفها وسائل الإعلام المصرية يومياً بشأن كمّ هائل من المصائب التي تقع فوق رؤوس المصريين، أو في بطونهم جرّاء أطعمة فاسدة أو ملوثة أو غير صالحة للاستهلاك الآدمي. فكل بضعة أسابيع تُضبط بضعة أطنان من اللحوم الفاسدة أو الأغذية منتهية الصلاحية، بخلاف المواد المسرطنة التي تُستخدم في صناعة عبوات المياه والعصائر وأنواع مختلفة من المقرمشات والألبان واللحوم المصنّعة، وغيرها من أغذية ومشروبات تدمّر صحة المصريين.
المشترك بين كل هذه المخاطر غياب الرقابة على المنتجات الغذائية التي يفترض أن تمثل أولوية قصوى لأيّ حكومةٍ تحترم الشعب، وتحرص على صحة المواطنين. ومعلومٌ أن هذه الرقابة المفترضة تستلزم أمرين جوهريين: الموارد الكافية لقيام الأجهزة الرقابية بعملها، ونزاهة القائمين على هذا العمل في تلك الأجهزة والمؤسسات التنفيذية التابعة. وغني عن البيان أن استيفاء الشرطين صار ضرباً من الخيال في مصر. والسبب ببساطة أن المخصص لهذه القضية الخطيرة من الموارد المتاحة، وهي قليلة أصلاً، ليس سوى نزر يسير. ما ينعكس، بالضرورة، على عجز الأجهزة المختصّة عن القيام بدورها وملاحقة كل الانتهاكات، إضافة إلى صعوبة استيفاء شرط النزاهة والأمانة لدى غالبية من يضطلعون بهذه المهمة، إن لم يكن لتأصّل الفساد والنزوع إلى الانحراف لديهم، فبحكم الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها المصريون، وتفتح لدى الضعفاء منهم باباً واسعاً لدخول الأبالسة وتغلغلهم.
والأمثلة على سوء توزيع الموارد كثيرة ومستفزّة، منها صرف مؤسسات حكومية رسمية ملايين الجنيهات على حملات دعائية سفيهة، ولا مبرّر لها ولا جدوى اقتصادية منها بالمرّة. فقد قامت هيئة البريد الحكومية بحملة إعلانية يتصدّرها نجم الغناء عمرو دياب. وهو ما يعني ببساطة أن الهيئة أنفقت بضعة ملايين من الجنيهات على الأقل، للإعلان عن خدماتها التي لا حاجة لها إلى إعلان أصلاً، لأنها ليست تجارية، فضلاً عن أنها حكر على الهيئة باستثناء خدمة البريد العاجل والدولي التي لا يستخدمها معظم المصريين الذين تستهدفهم الحملة! وينطبق الأمر نفسه على دعايةٍ واسعة النطاق قامت بها مؤسسات حكومية أخرى، منها البنك الزراعي المصري، وشركة مدينة نصر للإسكان والتعمير، وغيرهما. والمثير للدهشة أنه تطوّر سلبي وغير مسبوق، أن تعلن الحكومة المصرية عن خدمات أو أنشطة حكومية ليست في وارد المنافسة ولا تبحث عن الربح. 
وحين يرى المصريون أن الموارد التي تدّعي حكومتهم قلّتها، تتدفق للإنفاق على مجالات غير مهمة، وأوجه صرف لا مبرّر لها، فمن الصعوبة إقناعهم حينئذ بأي حديثٍ عن التقشّف أو دعوات إلى التبرّع من أجل أساسياتٍ هي أصلاً جوهر مسؤوليات أي حكومة، حتى في أعتى الدول الرأسمالية.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.