الأمم المتحدة في ليبيا والسودان والتدخّل الدولي

الأمم المتحدة في ليبيا والسودان وصناعة التدخّل الدولي

08 مايو 2023
+ الخط -

يثير اندلاع العملية العسكرية في السودان التساؤل عن جدوى دور المنظمات الدولية في حل الصراعات الداخلية، فمنذ تشكيل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة، زادت التناقضات بين الأطراف السودانية. وفي حالة مشابهة، تصاعدت الأزمة السياسية في ليبيا في وجود بعثة الدعم الأممية فيها. وهنا، يمكن التساؤل عن أنه على الرغم من بدء مرحلة بناء المؤسّسات الانتقالية في كلٍ من ليبيا والسودان، لم يساعد إنشاء بعثتين للأمم المتحدة في إحلال السلام، فقد شهدت تجربة البلدين تصاعداً في الصراع وانهيار المؤسسات الانتقالية وانتشار الصراع المسلح. ولذلك، تبدو أهمية تناول الترابط ما بين دور البعثات الأممية والتغير السياسي، من خلال تناول وظائف البعثات الدولية ضمن السياقات المحلية والدولية، وخصوصاً ما يتعلق بمبرّرات استمرار التدخل الدولي وطبيعة منظور التحول السياسي ومدى احترام مكوّنات الدولة، بالإضافة إلى التنافسية الدولية.
ورغم اختلاف صيغتي إطاحة معمّر القذافي في ليبيا وعمر البشير في السودان، سارعت الأمم المتحدة إلى تشكيل بعثة أممية في كل من البلدين، للإشراف على المرحلة الانتقالية. في الحالة الليبية، نشأت البعثة الدولية تطويراً للتدخّل الدولي، وفق الفصل السابع، حيث صدر القرار 2009/ 16 سبتمبر/ أيلول 2011 لإنشاء بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.  (UNSMIL). وفي الحالة السودانية، كانت السياقات مختلفة، فقد وجَّه رئيس وزراء الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، رسالتين إلى مجلس الأمن في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط 2020، طلب فيهما تشكيل بعثة سياسية خاصة تحت الفصل السادس، ويغطّي نطاق عملها كل أراضــي الســودان. وبعد أشهر، أصدر مجلــس الأمن القرار 2524 يونيو/ حزيران 2020 بتشــكيل "بعثة الأمــم المتحــدة المتكاملــة للمســاعدة فـي الفتـرة الانتقاليـة فـي السـودان" (UNITAMS). في كل من الحالتين، حاولت الأمم المتحدة الدخول للملفات الإقليمية، ورغم الاستناد لمبدأ مسؤولية الحماية في حالة ليبيا، لم يكن ثمّة مبرّر واضحٌ لتشكيل بعثة للسودان، حيث ظهرت خلافات ما بين الحكومة ومجلس السيادة حول وجودها وتدخلها في الشؤون الأمنية والاقتصادية.
وبغض النظر عن اختلاف سياقات التدخّل الدولي في الحالتين، تستمد البعثات اختصاصاتها من مجلس الأمن. ووفق ميثاق الأمم المتحدة، تُمارس البعثة الأممية وظائفها عبر الحكومات المحلية والدول، بجانب مساعدة فريق الخبراء، وذلك تحت إشراف مجلس الأمن، وتتكوّن من جهاز إداري لمتابعة ملفات التحوّل السياسي. ونظراً إلى نقص التفويض السيادي والمخصّصات المالية، يقتصر دورها على تقديم توصياتٍ واقتراح الخطط من دون الفصل في النزاع. وهنا، يثير انتقاض صلاحيات البعثة الجدل حول لزومها في الإشراف على المراحل الانتقالية، في حالتي ليبيا والسودان، لم يتجاوز دورها التنسيق بين الأطراف واقتراح مبادرات. 

في وقت تشكيل البعثتين، قطع البلدان شوطاً في الانتقال السياسي، ولكنه انتهى بعد سنوات قليلة وتحوّل إلى انقسامات وصراع مسلح

وفي الحالتين، تتمتع البعثة بمهام متشابهة، تتمثل في تقديم الدعم للتحوّل الديمقراطي، وحشــد الدعــم الاقتصادي ونشــر المســاعدات الإنســانية، بالإضافة إلى المســاعدة فــي وضــع الدســتور والإصلاح الأمني والعســكري، غير أنه رغم نشأة المرحلة المؤقتة الليبية تحت التدخّل الدولي، فإنه في السودان، نشأ التدخّل بعد وضع النظام القانوني للمرحلة الانتقالية في السودان. وبغض النظر عن الفروق المحدودة بين الحالتين، توجّه عبد الله حمدوك إلى وضع خيارات السودانيين تحت إشراف هيئات دولية، لتعويض فجوة القوة مع الجيش وإخضاعه للرقابة في أثناء المناقشات الانتقالية وقبل إصدار الدستور.
ومنذ نشأتهما، بدا تمديد البعثتين عملاً إجرائياً لدى مجلس الأمن، من دون تقييم أداء الفريق الدولي أو وجود ما يشير إلى حدوث تحوّلاتٍ في دور الأمم المتحدة، بقدر تنامي التنافسية الدولية وتمثيل القارّات المختلفة. ورغم تزايد الأزمة، حظي فولكر بيرتس برئاسة البعثة ثلاث سنوات متتابعة، كما تداول ثمانية مبعوثين على البعثة لدى ليبيا. وباستثناء الهدوء السياسي وقت نقل مسؤولية البعثة من إيان مارتن إلى طارق متري في 2012، ارتبط انتهاء فترة المبعوثين الخاصين بوجود أزمة شرعية المؤسّسات واندلاع حرب العصابات. وتكشف هذه الحالات عن انقلاب في وظيفة الأمم المتحدة من توطيد السلام إلى رعاية عدم الاستقرار، ولم تستطع البعثة الأممية احتواء الاستقطاب السياسي والانفلات خارج القانون وتفشي الاغتيالات.

البداية
وفي وقت تشكيل البعثتين، قطع البلدان شوطاً في الانتقال السياسي، ولكنه انتهى بعد سنوات قليلة وتحوّل إلى انقسامات وصراع مسلح. في حالة ليبيا، ساهم المجلس الوطني الانتقالي في بناء الخطوة الديمقراطية الأولى بانتخاب المؤتمر الوطني العام. وعلى الرغم من قدرة ليبيا على دخول المرحلة الأولى لبناء المؤسّسات المؤقتة، وتكوين حكومة مدنية في السودان، ظهرت نزاعات وصراع مسلح أجهض البنية الهشة للانتقال السياسي. وبشكل عام، تعرّضت البعثة في ليبيا لانتكاستين، عندما اندلع الصراع المسلح في 2014 وشنّ هجوم على العاصمة، طرابلس، في أغسطس/ آب 2018 وإبريل/ نيسان 2019، كشفت هذه الأزمات عن خلوّ ظهر البعثة من الدعم الدولي أو الاحترام الداخلي، حيث لم تتمكّن من وقف الأعمال القتالية وفرض هدنة مؤقتة. وعلى الرغم من الصلاحيات الواسعة لبعثة الأمم المتحدة تجاه البلدين، لم يتّضح وجود استراتيجية لحماية "الهيئة التأسيسية" بوصفها سلطة دستورية ودعم مشروع الدستور الصادر في 28 يوليو/ تموز 2017. وينطبق هذا الوضع على السودان أيضاً، فقد تمكّن السودانيون من تأسيس المرحلة الانتقالية من دون مساعدة خارجية، لكنه منذ حلول أقدام بعثة فولكر، زادت الانقسامات حدّة، وتباينت المواقف إزاء السياسات الانتقالية.

على مدى عمل البعثتين، لم يكن هناك معيار واضح للتمثيل السياسي، فقد ارتبط الاختيار بهيمنة الكيانات القائمة

التوجّه السياسي
بشكل عام، يصعب ملاحظة تراكم سياسي لعمل المبعوثين، حيث استغرقوا وقتاً طويلاً في استكشاف أبعد المشكلات، وفي جولات تشاور مع السياسيين المحليين وفي دول الجوار. وبغض النظر عن ترابط أعمال كلٍّ منهما، تماثلت البعثتان في تبنّي إطارٍ سياسيٍ يقوم على الليبرالية، ظهر بوضوح في النظر إلى قضايا المرأة وحقوق الإنسان، لكنه بدا متناقضاً في مسألة حياد الجيش. في حالة ليبيا، لقي ترشيح العسكريين قبولاً واضحاً يسمح بدور سياسي للجيش، وذلك على خلاف تعزيز بعثة فولكر، للانقسام حول الجيش السوداني وتماهيها مع الحرية والتغيير في تعريف إجراءات أكتوبر 2021 انقلاباً عسكرياً، بالإضافة إلى مطالبتها بإخضاع النشاط الاقتصادي للحكومة المدنية غير المنتخبة. شكلت هذه الخلفية العامل الأساسي لتوقف ورشة الإصلاح الأمني بعد وقت قليل من انطلاقها في بداية أبريل/ نيسان 2023، للخلاف الشكلي على المدى الزمني لدمج قوات الدعم السريع، فيما كان استبعاد الجيش السبب الحقيقي وراء السعي إلى تمكين أطراف الاتفاق الإطاري، دون غيرهم، من السلطة. 
كما يساعد تناول سلوك البعثة الأممية في فهم سياسات الخروج من المرحلة الانتقالية. وعلى مدى عمل البعثتين، لم يكن هناك معيار واضح للتمثيل السياسي، فقد ارتبط الاختيار بهيمنة الكيانات القائمة. في مجموعة الحوار السياسي الليبية، قام تشكيل اللجان على الجمع ما بين المؤسسات المنتخبة، الأحزاب، شخصيات عامة ونشطين سياسيين. ونظراً إلى شكلية المعايير، اتسمت اللجان بعدم الاستقرار، ومع تجنّب الكفاءة، هيمنت معايير الانتماء الحزبي، العمر، النوع والدوائر الانتخابية، بالإضافة إلى التوسّع في تصنيف الشخصيات الوطنية المستقلة. وقد أسبغت هشاشة التركيبة السياسية والاجتماعية العشوائية والضعف، بحيث لم توفر البعثة الحماية الانتقال السياسي أو طرح مسوّدات مرنة تستوعب التنوع الاجتماعي والتنافر السياسي. 
على أية حال، لم يؤد تتابع الخطط الانتقالية لتحرير العملية السياسية من النزاع حول السلطة في ليبيا، فقد ظلت كل الخيارات تمر عبر مجلسي النواب والدولة والأطراف الرسمية الأخرى. ورغم نجاح البعثة الأممية في ترتيبات المرحلة التمهيدية في 2021، تكَسَّرت أعمالها بسبب اعتبار الولايات المتحدة وأوروبا الانتخابات وسيلة لتموضع نفوذهم وإبعاد القوات غير الغربية من ليبيا.

خلال العملية العسكرية الجارية في السودان، يساهم تصوير فولكر بيرتس الوضع في السودان نزاعاً بين طرفين في التمهيد للتدخّل الدولي المباشر

وفي حالة السودان، قامت تصوّرات البعثة على الانضواء في الاتفاق الإطاري لتوقيعه من مجموعة واسعة من المجموعات المدنية، فلم تكن المشكلة في قدرة البعثة على وقف الحرب أو معالجة أسبابها، ولكن في تنامي انشغالها بإبعاد الجيش ونقل السلطة سريعاً للمدنيين من دون تهيئة للأحزاب وخفض الصراع بينها، وخصوصاً مع غياب تجربةٍ حزبيةٍ مستقرّة وكافية للانتقال السياسي. ظهرت عيوب الوضع الانتقالي في ثلاث خصائص، حيث ضعف النظام الحزبي، التنافس على تقاسم السلطة وتوظيف المكوّنات الاجتماعية في نطاق استعراض رأيها في المشاورات (الورش) أو تمثيلها في لجان الحوار.  
وخلال العملية العسكرية الجارية في السودان، يساهم تصوير فولكر بيرتس الوضع في السودان نزاعاً بين طرفين في التمهيد للتدخّل الدولي المباشر، وخصوصاً بعد تهديده بفرض عزلة دولية لأي طرفٍ لا يستجيب للأمم المتحدة. يقوم هذا السلوك على فرض الإذعان من دون توفير صيغة لتوحيد الجيش وتجميع قوة الدولة. ووفق المسار السابق، يبدو سلوك البعثة أقرب إلى تطوير الصراع والسحب من سلطة مجلس السيادة لصالح أحزاب الحرية والتغيير.
وبجانب العوامل الذاتية، يتأثر عمل البعثات الأممية بتباين مصالح الأطراف المحلية والتنافسية الدولية. ومن وجهة تركيبة البعثة، يمثل المبعوث الحلقة الأضعف ما بين الدول النافذة والهيئة العاملة في البعثة والأطراف المحلية. ولذلك، بدت السمات الشخصية واحدةً من عوامل تفسير غياب استراتيجية لحماية الانتقال السياسي، كالاهتمام بمكافحة الإرهاب والتمكين السياسي للمرأة، فيما تراجع الاهتمام بدعم الاقتصاد وحماية الثروة النفطية والإدماج السياسي. وبينما تماثل موقف البعثتين في استبعاد المنظمات "الإرهابية"، بدا ضعف البعثة واضحاً في تجاهل مجلس الأمن خطة المبعوث عبد الله باتيلي في 27 فبراير/ شباط الماضي، وتفضي التعديلات الدستورية التي أجراها مجلسا الدولة والنواب، وهي تكرار لعوامل إحباط الحل السياسي السابقة.

نتيجة تحيزات البعثتين، واجهت محاولات تكوين السلطة مشكلة تزايد اهتمام البعثة بقضايا ثانوية في مقابل انحسار دورها في حماية المؤسّسات الانتقالية

وفي السياق ذاته، بدت بعثة فولكر أكثر تفضيلاً لمقترحات "الحرية والتغيير ـ المجلس المركزي" وترويجها لدى البعثات الدولية والاتحاد الأوروبي لأجل تحويل الاتفاق الإطاري لصيغة نهائية. قادت هذه العملية لتعميق الأزمة داخل الجيش وتوقف المسار الانتقالي، رغم مساندة آليتي الثلاثية والرباعية لانعقاد ورش الحل النهائي من دون توفير ضمانات تسوية الخلافات فيما بين العسكريين والمدنيين، ما يعزّز مساهمة المشاورات في إنتاج التهميش بتجاهل أطراف اتفاق جوبا وترسيخ ثنائية القيادة العسكرية.
كما واجهت البعثتين قيودٌ، ارتبط بعضها باختلاف السياسات الدولية والإقليمية. ومن وجهة الفاعلين الدوليين، لقيتا مُزاحمة مجموعات دولية، بحيث لم تكونا المتغيّر الرئيسي لقرارات مجلس الأمن أو للتأثير في السياسيين المحليين، فقد ساهم غموض الإرادة الدولية في تراكم عوامل الصراع وتراجع فرص الحل السلمي. وعادة ما كانت تقارير البعثة ضمن مشاورات ما بين الدول الكبرى والأطر التنسيقية حول البلد المعني. في حالة ليبيا، تشكّلت مجموعات دولية مختلفة، كان منها، المجموعة الأوروبية ـ الأميركية ولجنة الاتصال التي شملت دولاً إقليمية كمصر، تركيا والإمارات. وفي حالة السودان، تشكّلت آليات إضافية، في مقدمتها الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد)، وذلك بالإضافة إلى لجنة الرباعية (الولايات المتحدة، بريطانيا، السعودية، الإمارات). وبقدر مساعدة هذه الهيئات في الاتفاق السياسي الليبي أو الاتفاق الإطاري، حيث أدت خلافاتها لإحباط المسار السياسي.
ونتيجة تحيزات البعثتين، واجهت محاولات تكوين السلطة مشكلة تزايد اهتمام البعثة بقضايا ثانوية في مقابل انحسار دورها في حماية المؤسّسات الانتقالية. تفاقمت هذه العيوب مع تَخلف أولويات البعثات عن حاجات المجتمع، وبينما تعاني الدول من التوتر والصراع الأهلي، شغل تمثيل النساء جانباً كبيراً من جدول أعمال البعثة الأممية، وصل في حالة السودان إلى تخصيص نسبة لا تقل عن 40٪ في المستويات السياسية المختلفة.
ويمكن القول إن تدهور الدولتين تحت مظلة البعثة الأممية، يرتبط بعاملي التَحيز السياسي ضد السياقات الاجتماعية والثقافية، وهيمنة الفاعلين الدوليين على تحرّكات المبعوثين، بحيث ظلت مؤسّسات الأمم المتحدة الحلقة الرخوة في النظام الدولي. وبالتالي، يمكن فهم تجنّبها التعامل مع الإشكال الحقيقي تعبيراً عن أنماط صراعية، تكشف مساراتها عن تضاؤل حرية الوصول إلى حل سياسي عن طريق المنظمات الدولية.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .