الأشياء على حقيقتها

13 مايو 2024

(عبد الكريم ربيع)

+ الخط -

عندما نطلق على شخص ما صفة "موضوعي"، فإنّنا نعني بذلك أنّه ينظر إلى الأشياء على حقيقتها، وبتجرّد، كما هي عليه في الواقع من دون تحيّز شخصي مسبق أو نظرة انفعالية مبنية على اندفاع عاطفي أو موقفٍ ضيّق الأفق مُستمدّ من خلفية أيديولوجية. ويُعرّف علم الاجتماع الموضوعية بأنّها الموقف الذي تتّخذه حين تُصدر أحكامَك بشأن الواقع مُنزّهة عن الرغبة والهوى. وبالتالي، الموضوعية هي صفة للأحكام وليست صفة للواقع، لأنّ الواقع مُستقلّ عن الذات، وقد اعتبرتها الفيلسوفة والروائية الروسية الأميركية، آين راند (1905-1982)، فلسفة للحياة على الأرض، وتتمثّل في الواقعية، إذ يهدف هذا الاتجاه الفكري إلى تحديد طبيعة الإنسان وطبيعة العالم الذي نعيش فيه، وقد عبّرت عن فكرتها تلك في روايتيها؛ "المنبع" (1943) و"أطلس يستريح" (1957)، وكذلك في كتبها الفكرية (في الأصل مجموعة مقالات قبل جمعها في كتابيْن)، مثل "مقدمة إلى نظرية المعرفة الموضوعية" (نشر بدءاً من يوليو/تموز 1966)، و"فضيلة الأنانية: مفهوم جديد للأنانية" (1964). 
ويعرّف علم النفس الموضوعية بأنّها توخّي الدقة والأمانة في تسجيل الوقائع والأحداث، وفي جمعها وعرضها وتفسيرها، والحكم عليها، فيتجرّد الشخص من ميوله الذاتية وأهوائه الشخصية وآرائه ومعتقداته وأفكاره، ويقف موقفاً محايداً من الناحية الانفعالية. أمّا في الثقافة الشعبية، فإنّ مرادفات مصطلح "موضوعي" كثيرة، منها العادل، والنزية، والصادق، والشجاع العقلاني، والحقّاني، الذي يقول الحقّ (ولو على قطع رقبته)، وفي معزل عن التنظير العلمي الجاف، ومن وجهة نظر واقعية، فإنّ الموضوعية صفة نادرة التحقّق لأنّها تنافي في جوهرها الطبيعة البشرية، المحكومة في سلوكياتها ونظرتها إلى الأمور وحكمها على الأشياء، بالانجراف العاطفي، والاندفاع الغريزي، وهي من أكثر نقاط ضعف الإنسان أهمّية في العموم، وتميّزه عن آلة تؤدّي وظائفها على أكمل وجه بشكل ميكانيكيّ رتيب. وإذا سلّمنا أنّ الإنسان مزيجٌ من المشاعر والانفعالات والقدرات العقلية، التي تمنحه القدرة على التمييز، علينا أن نعترف بأنّ العاطفه لدينا تسبق العقل، على الأغلب، ولا أرى في ذلك نقيصة، بل تعبير صادق عن طبيعتنا، التي تنطق عن الهوى، في معظم الحالات والمواقف. 
ومع ذلك، لا يَخلو الأمر من نماذج لأشخاصٍ تمتّعوا بصفة الموضوعية في تعاطيهم مع شؤون الحياة، هؤلاء قد ينظر إليهم بعضهم باعتبارهم متبلّدي المشاعر متحجّري القلوب، قادرين على تغليب العقل والمنطق دائماً، ما يجعلهم نماذج تحظى بالاحترام لرجاحة عقولهم وقدراتهم واتخاذهم القرارات الحكيمة بعيداً عن التحيّز العاطفي، غير أنّها نوعيات غير مُفضّلة من محيطها، لغياب الجانب العاطفي في ردّات أفعالها وسلوكاتها عامة، رغم أنّ صفة الموضوعية تعتبر ضرورة لا بدّ من توافرها، سيّما في أصحاب بعض الوظائف القيادية المؤثّرة مثل السياسيين ورجال القضاء والمحامين، والمُفكّرين والمُحلّلين السياسيين، والمُحكّمين الدوليين والمعلمين، وغيرها من الوظائف التي تتطلّب توفّر أقصى درجات الموضوعية لدى الأشخاص القائمين بها، تحقيقاً للعدالة والنزاهة، وانتصاراً للحقيقة في كلّ الظروف والأحوال. 
ويستطيع أيّ منّا، إذا توفّرت النية، التدرّب على هذه المهارة، مهما بلغت درجة عاطفيته وحدّة انفعالاته، إذا ما رغب في تطوير ذاته، من خلال التحكّم بعاطفته ومشاعره، وإفساح المجال للتفكير المنطقي الكفيل بتحقيق نوعٍ من التوازن النفسي، والتصالح مع الذات، من خلال الاقرار بنقاط ضعفها والاعتراف بأخطائها من دون مكابرة وتعنّت، ومحاولة تهذيبها، والكفّ عن التحامل الجائر وإطلاق الأحكام الجاهزة المُسبقة المتجنية، والارتقاء بسلوكها داخل محيطها، ومعرفة ما لها وما عليها، والابتعاد عن التشبثّ بالمواقف المُتعصّبة، والتعبير عن مواقفها بصدق وشجاعةٍ، والتعالي على أساليب المداهنة والمجاملة الكاذبة، والنفاق الاجتماعي، سعيّاً إلى نيل إقرار ورضا الآخرين، إذ إن كلمة "برافو"، يُسمِعُوننا إياها رشوةً لانحيازنا إليهم، وسكوتنا عن سابق تصميم عن كلمة الحقّ، ليست أكثر من تأكيد على افتقارنا أدنى درجات الموضوعية، وفي ذلك ظلم كبير لأنفسنا في الدرجة الأولى.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.