الأحزاب المصرية وتداعيات ما بعد 2011
على مدى السنوات اللاحقة، ظلت تداعيات حراك يناير 2011 في مصر مثار نقاش حول أسباب المشكلات الراهنة. وفي هذا السياق، سارت وجهتا نقاش، حاولت كل منها تقديم قراءة من منظور العلاقة بين الدولة والمجتمع أو افتراض توافر شروط الديمقراطية. وعلى الرغم من كشف سلسلة عملياتٍ انتقاليةٍ عن الإرادة الشعبية وتوصيلها إلى سلطة الدولة، وقد أثارت مشكلة التكامل السياسي إمكانية الاستفادة من الفرصة القائمة للتحوّل السياسي. وهنا، تبدو أهمية تناول السلوك السياسي للأحزاب والجماعات السياسية للاقتراب من حالة التكامل السياسي وارتباطه بالسياسات العامة وبناء الثقة والتوافق السياسي.
وتبدو المسألة الأساسية في تقديم قراءة مفتوحة لمسار العلاقات وتأثيرها على البدائل الحيوية للعلاقة بين الدولة والمجتمع والاقتراب من فهم لنقاط الاختناق يساعد على بناء الثقة. فعلى الرغم من التغيّرات المتتابعة، يظل دور الفاعلين متّصلاً وتراكميّ الآثار على المشهد السياسي، ومن ثم، يصعب التركيز على مرحلة دون غيرها، وخصوصاً ما يتعلق بسياقات السنوات الأولى (2011 – 2013)، وتأثيرها على أداء الفترة اللاحقة، فمن وجهةٍ أساسية، بدت ثورة يناير (التحوّل عن نظام حسني مبارك) عملاً مُشتركاً بين الجماهير وجانبٍ من مؤسسات الدولة، بحيث شكّلت تضامناً كلياً أو جزئياً حول بدء مرحلة جديدة من التغيير السياسي، وتمهيد الأرضية لتحوّل ديمقراطي.
نقص التكامل الحزبي
شكلت المصادر الداخلية والخارجية تحدّياً للتحول السياسي في فترة ما بعد ثورة يناير 2011. فمنذ البداية، ظل الانقسام السياسي في مواقف الحركات والأحزاب السياسية امتداداً لتصرّفاتها في فترة حسني مبارك عندما تحوّلت التنافسية إلى صراع حِزبي، اتّخذ من الخلاف على أولويات الانتقال السياسي مُرتكزاً لتطوير النزاع على مدى السنوات اللاحقة.
ظل اللجوء إلى الاعتصام تعبيراً عن نقص القدرة على توفير حلول تفاوضية أو توافقية
وعلى أية حال، بدا الحديث عن التوافق على اعتبار اعتصام ميدان التحرير 18 يوماً أسطورياً يفتقر إلى جانبٍ كبير من الفحص والتدقيق، وبينما شاعت الشعارات الجمعية، فقد ظهر الوعي الخاص بالفروق والتباينات الأيديولوجية، وهو ما تمثَّل في سلوكٍ فرديٍّ وجماعيٍّ لكل اتجاهات المحتجّين، فكما اعتبر منتمون لليسار الإسلاميين حدثاً طارئاً على المشهد السياسي، بادلهم الإسلاميون شعوراً بالهيمنة. قد تكون هناك بعض الآراء المرنة، لكنها تظلّ تحت حالة الاستثناء. وعلى خلفية هذه الفروق، تشكّل السلوك اللاحق لسنوات تالية. وعندما انفرط الاصطفاف المؤقت وتنامت الولاءات التنظيمية، انتشرت الرغبة في الاستحواذ على التمثيل الشعبي، كما كان لافتاً ظهور تطلعات إلى إثبات تنوّع زائف. وهناك مشاهد كثيرة، يمكن الإشارة إلى واحدٍ منها، فقد أدرجت المجموعات الماركسية واحدة منتقبة ضمن طابور دعائي في واحدٍ من جنبات الميدان الرئيسية، كما حاول الإسلاميون إثبات انفتاحهم بسلوكياتٍ أكثر بساطة.
لم يكن الحديث عن الوعي الجمعي العنوان الرئيسي للمرحلة التالية، ويمكن القول إن تصاعد النزاع الحزبي شكّل عاملاً رئيسياً في هدم نتائج الانتخابات. فقد تشكلت أرضية للصراع على خلفية ثلاثة أحداث، بدأت بالانقسام على استفتاء 19 مارس (2011)، ثم اجتماع الأحزاب في 28 سبتمبر/ أيلول 2011 لرفض تعديلات انتخابية لا تسمح للحزبيين بالترشح على المقاعد الفردية، ليتوفر أساس الطعن الدستوري في مجلس النواب، وأخيراً، ظهرت موجةٌ أخرى نتيجة الخلاف على إعلان 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، انتهت بتقويض انتخابات الرئاسة والدخول في مسار الانتقال مرّة أخرى.
وفي مواقف متزامنة، شاعت ظاهرة الاعتصامات لرفض المسار القائم أو الامتناع عن المشاركة فيه. وظل اللجوء إلى الاعتصام تعبيراً عن نقص القدرة على توفير حلول تفاوضية أو توافقية، لتكشف عن تعطيل المؤسّسات وخِفَة الأحزاب والجماعات المدنية، في تلك الفترة، مرّت مصر بسلسلة اعتصامات، بدأت في يناير/ كانون الثاني 2011 ويوليو/ تموز من العام نفسه واعتصامات محدودة أخرى، وأخيراً في ميداني رابعة العدوية والنهضة في يوليو/ تموز ـ أغسطس/ آب 2013. شكلت هذه الاعتصامات تحدّياً للسلطة القائمة، وفتحت باباً واسعاً للانقسام السياسي على خلفية الأيديولوجيا ومصادر التأثير الخارجية.
بينما تتفكّك القوى السياسية، أخذ دور الجيش في التطوّر مع منحه سلطة الضبط القضائي في يونيو 2012
ويمكن قراءة دور الدولة في انعقاد الانتخابات التشريعية، ثم الرئاسية وتسليم السلطة، عامل بناء للثقة مع المجتمع، فهذه الخطوات كانت في مركز الانتقال السياسي وتكوين جسم للسلطة الجديدة، غير أن تسارع الأحزاب على ملء الفراغ ساهم في إثارة النزاع حول المؤسسات الوليدة (مجلس النواب، الجمعية التأسيسية ورئاسة الدولة)، لتدخل البلاد في بيئةٍ صراعيةٍ مفتوحةٍ على كل الاحتمالات. في تلك الفترة، دخلت الأحزاب المختلفة معارك صفرية، لم تقف عند العراك في الذكرى الثانية لثورة يناير، بل امتدّت إلى رفع دعاوى قضائية للطعن في المؤسّسات المنتخبة.
وعلى وجه آخر، وبينما تتفكّك القوى السياسية، أخذ دور الجيش في التطوّر مع منحه سلطة الضبط القضائي في يونيو/ حزيران 2012، ثم الدستور والتوسّع في تفويض وزير الدفاع في اختصاصات رئيس الجمهورية. وعلى مدى الفترة، ساهم الجيش في تسيير المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة بعد الانتخابات الرئاسية، والتكيف مع تداعيات الحراك أو الأزمة السياسية، ولاحقاً، أشرف على مرحلة انتقالية أخرى، بعد بيان القيادة العامة للقوات المسلحة في 3 يوليو/ تموز 2013. بعد تصاعد النزاع فيما بين الأحزاب بشكل متقارب مع ما حدث في 2011، لتظهر مشكلة شرعية الحكم مرّة أخرى لانقسام الأحزاب على جانبي التأييد والمعارضة.
مسار ضد الديمقراطية
ومع مفاجأة تنحّي الرئيس مبارك، لم يكن هناك من يستطيع إرساء ملامح الأيام المقبلة، سواء ببيان إرشادي أو نص ثوري. قد يُشكل القلق المتبادل فيما بين التيارات السياسية عاملاً تفسيرياً. فعلى مدى السنوات 2005 – 2011، لم تتمكّن الحوارات المشتركة من تجاوز ميراث التَرقب أو الصراع. كما ساهم غياب النمط القيادي لدى الأحزاب والحركات السياسية في إعادة الحراك للمكاتب المغلقة بعيوبها التاريخية القائمة على الاستبعاد.
ظهرت كوابح الديمقراطية مُبكّراً لدى إدراج مجلس النواب، مارس 2012، مشروع قانون لتنظيم التظاهر، تضمّن قيوداً على الحقوق الفردية
ولذلك، ظلّ نقص الوعي بشروط التحوّل السياسي مُلازماً للفترة التالية، حيث لم تظهر محاولة لمعالجة أزمة التكامل وتجاوز الانقسام، وقد انعكس الطابع الإنشائي للبيانات الحزبية في خلوّها من أي أفكار أو مشروعات للتغيير السياسي، فمع انتهاء اعتصام التحرير في 11 فبراير/ شباط ومرور الأشهر اللاحقة، استقرّ الخطاب السياسي عند مستوى التطلع إلى التغيير وإزالة نظام سابق.
وقد انعكس غياب خطة للانتقال السياسي في تبنّي خيارات متنافرة، فمن وجهة أولى، شكّل عُدول الإخوان المسلمين عن تفاهماتٍ على خفض مستويات المشاركة في انتخابات البرلمان والامتناع عن الترشيح لرئاسة الدولة، واحداً من تقلباتٍ سادت تلك الفترة، لم تقتصر آثارها على الدولة بقدر ارتباطها بالجاهزية السياسية، فلم يكن ثمّة استعداد تشريعي، كما ظهر البرنامج الانتخابي تحت الإلحاح المفاجئ بالترَشّح لانتخابات الرئاسة.
ومن وجهة ثانية، ظهرت كوابح الديمقراطية مُبكّراً لدى إدراج مجلس النواب، مارس/ آذار 2012، مشروع قانون لتنظيم التظاهر، تضمّن قيوداً على الحقوق الفردية، ليصدره مجلس الشورى في مارس/ آذار 2013 من دون التصديق عليه، وكانت السمة المشتركة في تقييد حق التظاهر بنقص ضمانات السماح بعقد الاجتماعات العامة والتوسّع في عقوبة المخالفين للشروط التنظيمية، بما يشمل إطلاق الرصاص. ولاحقاً، أُجريت عليه تعديلات للتخفيف من قيود التظاهر واتباع العقوبات التصاعدية، ليصدر قانونا في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه. وبغض النظر عن العوامل المشتركة في مراحل القانون، يعكس هذا التوجّه التحوّل المبكر عن الإصلاح والديمقراطية.
ظلت شروط إطاحة الديمقراطية ساكنة داخل التركيبات الحزبية، وظهرت إلى العلن وقت تصاعد الصراع
وبجانب شدة الانقسامات والاعتصام في الميادين فترة طويلة نسبياً، يمكن أخذ تجربة قانون التظاهر مؤشّراً على كبح التحوّل السياسي، فعلى مدى الفترة، ظلت شروط إطاحة الديمقراطية ساكنة داخل التركيبات الحزبية، وظهرت إلى العلن وقت تصاعد الصراع، ويمكن تفسير اتساع دور الجيش لضعف تماسك القوى السياسية المتماسكة وصعوبة تكوين نظام حزبي.
مشكلة الأمن في سيناء
وفي سياق أحداث يناير 2011، ظهرت أعباء الأمن في سيناء. ووفقاً لحديث الرئيس عبد الفتاح السيسي في الندوة التثقيفية في 9 مارس/ آذار 2023، بدا وجهان للمشكلة، كان الأول ماثلاً في تصاعد نشاط الجماعات المسلحة وعتادها، لتكشف عن شبكات واسعة في تخوم الحدود مع إسرائيل، وهي نتائج تراكم تخزين السلاح سنوات مضت، وكانت كافية لإزاحة سيطرة الدولة وفتح الطريق للحرب مع إسرائيل. وتمثل الوجه الثاني، في القيود على تحريك القوات وتمركز أعداد محدودة في غرب سيناء، وبشكلٍ لا يكافئ التهديد. عالجت مصر هذه المشكلة بتوزيع الأعباء بين مكافحة "ولاية سيناء" وشبكاتها الإرهابية وتسيير السياسات العامة، ما شكّل أعباءً متعدّدة على الأداء العام للحكومة.
ويوضح السياق أن السياسة المصرية بدت ردّ فعل على انتشار المسلحين والقلق من توجّه إسرائيل إلى تجريب نموذج حرب 1956 أو استمرار الاحتكاك بالنقاط الحدودية، كما حدث بقتل خمسة جنود في يونيو/ حزيران 2011. ولمواجهة التدهور الأمني، شرع الجيش في التنسيق مع إسرائيل لمنع تحرك المسلحين على جانبي الحدود، وذلك بتزامن التفاوض على تغيير شروط نشر القوات، وانتهت في 2018 بتعديل انتشارها. وفي وقت سابق، كانت الإشارة إلى تأمين هبوط طائرة في مطار العريش علامة على بسط الأمن في مناطق كانت مسرحاً لنشاط الجماعات المسلحة.
سارت مصر في الفترة 2011 ـ 2014 بدون خطة اقتصادية واكتفت بموازناتٍ تقديريةٍ لتلبية الحاجات الضرورية
لم يقتصر التحدّي الأمني والدفاعي على محاولة المسلحين إزاحة سلطة الدولة بتكوين "ولاية سيناء" ضمن شبكات العنف المُسلح، بل تنامت الإكراهات الخارجية مع تسارع التدخل الدولي في ليبيا ليؤدي لتهديد مستمر. كان هدفه الأساسي قطع الحراك السياسي في بلدان جنوب المتوسط، ولاحقاً، تسببت الحرب الأهلية وسهولة نقل السلاح عبر الحدود في أزماتٍ أمنيةٍ على طول الحدود ومصدراً للعبء الدائم على السياسة الخارجية.
المسألة الاقتصادية
وفي تزامن مع المشكلة الأمنية، ونظراً إلى غياب المجلس التشريعي، سارت مصر في الفترة 2011 ـ 2014 بدون خطة اقتصادية واكتفت بموازناتٍ تقديريةٍ لتلبية الحاجات الضرورية، تسبّبت في تآكل الاحتياطي النقدي ليصل إلى أدنى مستوى، بجانب توقف مشروعاتٍ كثيرة. وفي المرحلة التالية، تبنّت الدولة حزمة سياسات اقتصادية حتى عام 2024، تبنّت برامج الانطلاق والإصلاحات الهيكلية، وأخيراً تحسين مستوى المعيشة والدفاع الاجتماعي. تلازمت هذه المرحلة مع التوسّع في المشروعات العامة، وتمكين الدولة من الحفاظ على حدّ ملائم من الاحتياطي النقدي مترافقاً مع تضاعف الديون، وبشكل عام، لا يساعد الاستمرار في الاقتراض على معالجة هذه الفجوات بقدر ما يعمل على استنزاف الفائض.
وبالإضافة إلى العوامل الخارجية، انعكس ترحيل الأعباء بين المرحلتين في ارتفاع مستويات التضخّم متأثراً بزيادة الإنفاق على مشروعاتٍ بطيئة العوائد، ومترافقاً مع أزمات الاقتصاد الدولي. وبينما راكمت السياسات الانكماشية تحسّناً وهمياً في الفترة الأولى، كشفت السياسة التوسعية العيوب الاقتصادية المزمنة، وخصوصاً ما يتعلق بضعف القدرة على الاحتفاظ بالرأسمال البشري وخفض فجوة الإنتاج والاستهلاك. ولذلك، تبدو أهمية الموازنة ما بين المشروعات سريعة العائد وتلك البطيئة.
تشير تاريخية الأحزاب والحركات الاجتماعية المصرية إلى وجود سمات غير ديمقراطية، سواء في بنيتها التنظيمية أو مواقفها السياسية
على أية حال، لا تسعى هذه المطالعة إلى تقديم إجابات حاسمة بقدر تناول بعض الأبعاد السياسية وتأثيرها في الوضع السياسي. فمن وجهة أساسية، يصعب الفصل بين السياقات السابقة والجذور التاريخية لتناثر الخبرة الحزبية في مصر وطابعها الصراعي، فعلى مدى قرن، بقيت القوى السياسية غير قادرةٍ على وضع قاعدة للتداول السياسي، فقد ظلّت غير قادرة على تطوير كيانها الحزبي 30 عاماً في أثناء الحقبة المَلَكية، وأيضاً، قصرت عن إعادة هيكلة نفسها في مراحل التغير في فترات 1952 – 1954، و1974 – 1978، وأخيراً 2011 – 2013، وهو ما يشير إلى تضاؤل فرصة التلاقي على قضايا مشتركة، ما يعني ضعف القدرة على التكيف السياسي.
وتشير تاريخية الأحزاب والحركات الاجتماعية المصرية إلى وجود سمات غير ديمقراطية، سواء في بنيتها التنظيمية أو مواقفها السياسية، كما ظلت واحدة من الأشكال الجاذبة لنظام الحزب المهيمن. وهذا ما يفسّر جانباً كبيراً من الأزمة بين المجتمع والدولة. وفي هذا السياق، ظلت الأحزاب تفتقر للإسناد الاجتماعي، وقليلة المساهمة في تطوير المؤسّسات وتجديد النخبة السياسية. ومع استمرار هذه الخصائص، تبدو أهمية وجود صيغ للتوافق وبناء الثقة، تكون مهمتها حل إشكالية الفاعلية والقدرة على ابتكار مفاهيم وآليات أخرى للوصول إلى نظام سياسي أقرب تعبيراً عن خصائص المجتمع وتطلعاته ضمن الحد الملائم من التساند المتبادل.