الأب الأوروبي والأب العربي
احتفل الشعب الفرنسي قبل أيام بعيد الأب، وفي وقت سابق قريب، احتفل الألمان بالعيد نفسه بطريقتهم التي تتلخّص بأن يرتدي الآباء ثياباً غريبة، ويأكلوا المشاوي، ويشربوا البيرة، ويرقصوا. الطبيعي أن يختلف آباءُ هذه الأقوام عن آبائنا، لأننا -في الواقع- أبناءُ ثقافتين مختلفتين إلى حدّ التضارب. فالأب، عندهم، واحدٌ من أفراد الأسرة، يشترك مع زوجته، أو خليلته، في رعايةِ الطفل، أو الطفلين اللذين يُنجبانهما، وإعدادِهما ليكونا متعلّمين وقويين وجديرين بالحياة، بينما نسمّي نحن الأبَ "رَبَّ الأسرة".
ليست تسمية الأب ربّ الأسرة مجازية، فهو عندنا آمر، ناهٍ، مُنذر، متوعّد، لا يقبل جدلاً في أوامره، ولا تباطؤاً في تنفيذها، وقلّما تصادف أباً عطوفاً، رحيماً، متفهّماً لمشكلات أولاده، فإن وُجد واحدٌ كهذا ترى "مختلفَ فئات الشعب العاملة"، على حدّ تعبير عادل إمام، تنظر إليه بإشفاق، وإذا لم يصفه الناس بكلمة تَشْتُوش، فإنهم يكتفون بالتهكّم عليه، قائلين إن "حضرته" من جماعة التربية الحديثة... وينفلتون بالضحك، عليه وعلى التربية الحديثة!
عندما نحكي عن الأب، يجب أن يُفهم من كلامنا وجودُ طرفٍ آخر، الطفل، وهذا الإنسان الصغير، الحلو، القريب من القلب، تُخَصص له البلاد الأوروبية، ألمانيا على سبيل المثال، قسماً كبيراً من طاقات المجتمع. وبقليلٍ من الاسترسال، أقول إن الشاعر العربي إذا أراد أن يُثبت لك أنه مهتمٌ بتجربته الشعرية، يُخبرك بأنه يُقيم الشعرَ مقامَ الوالد.. وإذا أردنا أن نسحب هذا المثال إلى هنا، نقول إن الألمان يقيمون "الطفلَ" مقامَ الوالد! أتيح لي، قبل سنتين، أن أشهد يوم افتتاح المدرسة، في منطقة Klein Nordende الألمانية، حضرتُ بصفتي جَدَّاً للطفلة سلام، ورأيتُ، رأيَ العين، كيف تستنفر الأسرةُ الألمانية، بكل أعضائها، بمن فيهم الجَدّ الذي يتحرّك بالكرسي الكهربائي، ليقدّموا إلى طفلهم الهدايا، ويرافقوه إلى المدرسة، وهناك يلتقون الأسرة التعليمية الواقفة على ساقٍ واحدة، استعداداً لاستقبال حضرة الطفل. وفي باحة المدرسة، يجري عبور الأطفال إلى ضفّة المدرسة، وبعد كلماتٍ ترحيبيةٍ موجزة من المدير، يُدعى الأهالي لتناول الكاتو والقهوة في قاعةٍ جانبية، بينما يدخُل الأطفال مع الأسرة التعليمية إلى الداخل، ليتعارفوا، ثم يخرُجون معاً، بعد ساعةٍ، يسلمون مجدّداً على الأهالي، ويدعونهم إلى الانصراف، بعدما تمّ القبول والتراضي بين المعلمين والإدارة من جهة، وحضرات الأطفال الأكارم من جهة أخرى.
في ألمانيا، كذلك، يتولّى أحد الوالدين تعليم الطفل قيادةَ البسكليت، والنظامَ المروري الخاص بالدرّاجات، وتخصّص له الدولة راتباً يسمّى Kindergeld يستمر حتى سن الـ 23، وإذا عرفت دائرة "اليوجند أمبت"، بأن طفلاً، ألمانياً أو لاجئاً، يتعرّض للضرب أو التعنيف، أو الإهمال، أو سوء التغذية، سرعان ما تتدخّل، وتأخذه إلى دار الرعاية، لتعتني به وتُعالج الرضوض النفسية التي تعرّض لها من ذويه. وأنا أعتقد أنكم تنتظرون، الآن، أن أحدّثكم عن طفلنا الذي يعاني من سلطة أبيه، وهو لا ينادى باسمه، غالباً، بل بكلمة "ولاك". والطفلة تظلّ تحمل لقب "عجية" حتى تتزوّج. والطفل، عموماً، محرومٌ أبسط متطلبات الحياة الكريمة، لأن الوالد مُعيل، دخلُه قليل، وعنده ثمانية أولاد، عدا أبيه وأمه اللذيْن يعيشان عنده، ومحروم حق التعبير، وأقلّ كلمة يسمعها اسكت، واخرس، وانكتم. وإذا اشتهى اللعب يُؤمر بأن يلعب مع الأولاد في الزقاق، وحينما يُزْجَر لا تجرؤ والدتُه على الدفاع عنه، إذ لا يوجَد ما يمنع رب الأسرة من أن يباشر بها، وقد جرت العادة في أيام افتتاح المدارس، على أيامنا، أي في أوائل الستينيات، أن يرافق الأبُ ابنَه إلى المدرسة (مثل الألمان فرد شكل)، ولكن ليس من أجل أن يحتفل مع الطاقم التعليمي بالطفل، بل ليُعطي للمعلم الضوء الأخضر بأن يضربه، مستخدماً تلك الجملة المعروفة: اللحم لكم والعظم لي.