افتتان جمعي بالشرّ

11 يوليو 2022

(رافع الناصري)

+ الخط -

 

في أثناء محاكمة القاتل الأميركي المتسلسل، تيد بندي، الذي قتل عشرات النساء وعذّبهن واغتصبهن، كانت قاعة المحكمة تكتظّ بالنساء المعجبات به، والمدافعات عنه، المقتنعات ببراءة بطلهن الوسيم، ذي الملامح البريئة والجاذبية الطاغية. ولم يحُل تصديق بعضهن (بعد اعترافه بقتل 30 امرأة) من استمرار حالة الافتتان بسفّاحهن المفضل. ويشخّص علم النفس مثل هؤلاء النساء المفتونات بالقتلة بالإصابة بمرض نفسي يعرف بـ"هاي برستوفيليا". يعانين فيها من مازوشية وإحساس حادّ بالدونيّة، ويرجّح علم النفس أنهن، على الأغلب، تعرّضن للإساءة في طفولتهن، ما عرّضهن لانعدام الثقة وعدم النضج والحاجة الماسّة للتعلق بأشخاص أقوياء، قادرين على فرض إرادتهم، وعلى كسر هيبة السلطة والتمرّد عليها، وذلك من باب التعويض عن عجزهن في التصدّي لمن أساء إليهن.
يتكرّر هذا المشهد الشاذّ العجيب في الشارع المصري حاليا، إذ أجمع قطاع كبير، تشكّل النساء نسبة كبيرة منه، على دعم قاتل نيرة أشرف ومؤازرته، وهو الذي اعترف بجريمته النكراء علانية، وأعاد تمثيلها أمام الكاميرات، وأفاد بأنه أقدم على فعلته، بسبب رفض الضحية له، على الرغم من عشقه الكبير لها. وقادت نساءٌ مضروباتٌ في ضمائرهن وتوازنهن العقلي والنفسي حملات لجمع تبرّعات بغرض دفع دية الضحية (ما رفضته العائلة بكل حسم)، في محاولة لإنقاذ عنق القاتل، بعد أن صدر قرار المحكمة، القابل للنقض، بإعدامه شنقا. وفي مشهدٍ همجيٍّ وحشيٍّ إجرامي سوريالي عجيب، تحولت الضحية، المنهوب شبابها، إلى فاسقة مجرمة تستحق الموت ذبحاً. تتمثل دلائل إجرامها في طريقة لباسها، وفي نمط حياتها، إذ أنها، والعياذ بالله، ترتدي المايوه إذا ما نزلت إلى حوض السباحة، وتستعرض جمالها في ملابس غير محتشمة أمام كاميرات التصوير، من خلال عملها موديلا. لهذا، أحلّ المجموع ذبحها ضمنيا، كي تكون عبرة لغيرها! أما المسكين البريء الذي أزهق روحها، عن سابق إصرار وتصميم وتخطيط، فإنه لا يستحق سوى الدعم والمؤازرة، كونه ضحية جرى استغلاله واللعب بمشاعره المرهفة! وما قام به من جرم على رؤوس الأشهاد لا يتعدّى ردّة الفعل المشروعة والمبرّرة ليس أكثر، فالولد طيب ومهذّب ومتفوّق في دراسته!
أي قبح هذا؟ أي عقل جمعي قذر متوحش مجرم حاقد؟ أي عماء وجهل وظلامية واستهانة سافرة بالحياة، تجعلهم يقرّون استباحتها ويختلقون الذرائع الواهية، ويلتمسون الأعذار التافهة من أجل تملص القاتل من تبعات جريمته. ويتنطّح، في تواطؤٍ مخزٍ، يبعث على التقزّز، مشايخ ورجال قانون ونشطاء وناشطات مؤثرون، يسعون إلى تضليل الرأي العام وإحراز شعبية وتأييد للقاتل على حساب دم ضحيته المهدور في وضح النهار. ومهما فعل هؤلاء، سيردّ كيدُهم إلى نحرهم لا محالة، فنصوص القانون واضحة لا لبس فيها، حيث الاعتراف سيد الأدلة، وشهادات شهود العيان لا مجال للتشكيك بها. أما التذرّع بأن الولد مجروح الكرامة والكبرياء، فهذا لن يبرّر، أمام القضاء، هول الجريمة. ولن تجدي محاولات المحامي الثمانيني الذي اختار أن يُنهي حياته المهنية موصوما بالخزي والعار. وقد تبرّع بالترافع عن القاتل مجانا، وهو لن يفلح في نفي حقيقة القتل العمد، الواضحة وضوح شمسٍ عصيةٍ على ثقوب الغربال الفضاحة، حتى لو استخدم كل الحيل القانونية التي تمرّس فيها.
طيب، ماذا سيقول سيادة المستشار المبجّل أمام المحكمة؟ أيها السادة، إن موكّلي الذي ذبح الضحية، في لحظة انفعال بريء، مظلوم، اضطرّ مكرَها إلى القتل دفاعا عن كرامته ورجولته المخدوشة؟ وهل تلتفت أي محكمة نزيهة في الدنيا إلى الأخذ بالثأر دافعا مقبولا للقتل؟ لو كان هذا صحيحا، لما اكتظّت السجون بآخذي الثأر الذين لا ينجون، في أحيان كثيرة، من تنفيذ حكم الإعدام بحقهم. من هنا، يتطلع الشرفاء وأصحاب الضمائر الحية ممن فجعوا بحكاية الصبية التي جرى اغتيالها، وتشويه سمعتها واستباحة خصوصيتها، إلى اقتصاص عادل يشفي صدور ذويها المكلومين، ويعيد الأمور إلى نصابها في هذا الفضاء العربي الملتبس الملتاث، المصاب برهاب الأنوثة، وبالحقد المؤدلج على كل ما هو جميل.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.