استقلال لبناني تائه
يحتاج لبنان إلى الخروج من مسألة "الاحتفال بعيد الاستقلال" سنوياً، للتصالح مع ذاته. المشهد المتكرّر منذ 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943، تاريخ إعلان استقلال البلاد عن فرنسا، يبدو سمجاً بكل المقاييس. لا شيء يشبه مبدأ "الاستقلال" في لبنان، عدا كونه دروساً تعليمية لأطفال المدارس، تنتهي ما إن يخرجوا منها. لا يتعلق الأمر بالانتماء الوطني أو الانتماء الطائفي، وهما ركيزتان متجذّرتان في صياغة هوية لبنانية تائهة، بل يرتبط أصلاً بانعدام الحاجة إلى بناء مجتمع ما حول فكرة عامة. عدم الاتفاق بين "الشعوب اللبنانية" حول مفهوم الوطن لم يُنتج فقط أزمة مجتمعية تطوّرت بأشكال موازية ومنفصلة على مدار العقود الثمانية الماضية إلى حدّ الشعور بأن "لا أحد يشبه الآخر"، بل أنتج أيضاً قدراً كبيراً من الإحباط الفردي الذي يذوب في غياهب الشعارات الكبرى الطنّانة.
حين تنظر إلى لبنان، وفقاً لهذه الشعارات، تجد طوائف مفكّكة ومتباعدة، في داخلها وخارجها، وإذا قُيّض لفريقٍ ما السيطرة على طائفة، لا تدوم سيطرته فترة طويلة تاريخياً، ربما لجيلين أو ثلاثة على الأكثر. لكن، حين تنظر إلى كل فردٍ وحده، ستجد قواسم مشتركة كبيرة وكثيرة بينه وبين أي فرد آخر من خارج طائفته ومنطقته. في الشعارات الكبرى يبدو لبنان يمينياً متطرّفاً، وعلى المستوى الفردي تراه يسارياً متطرّفاً. الاستقلال هنا يبدو غريباً لعجزه عن الجمع بين شعارات المجتمع، غير المطبّقة على أي حال، ولا قدرة لأحد على فرضها، والحاجات الأساسية لكل إنسان في هذا البلد.
كيف تكون المعالجة؟ لا شيء سوى ضخّ مزيد من الشعارات، وتصعيد وتيرتها، لقمع أي حركة فردية أو تفكير فردي يتيح لكل شخص الاعتراف بأن حاجته الخاصة تكون أكثر مردوديةً حين تتطابق مع حاجات أفراد آخرين، لصياغة نموذج مجتمعي يسمح في التفكير بأن استقلال لبنان يخصّه بالذات، ولا يخصّ الشعارات.
وحين يطرح بعضهم أفكاراً راديكالية، من نوع ضمّ لبنان إلى دول الجوار أو إلى أمةٍ ذات بعد ديني، على الرغم من استحالته، أو من نوع التقسيم والفرز على أساس طائفي، لا يدرك أنه بذلك لا يصنع حلاً كما يعتقد، بل يُساهم في تطوير الأزمة إلى أزماتٍ أكثر حدّة، ويساهم في تأدية الغرض الذي يرغب فيه أصحاب الشعارات الكبرى، الحفاظ على التباعد بين الأفراد لإخضاعهم.
صحيحٌ أن الحاجة هنا تبدو ملحّةً لاستنباط مفهومٍ عابر للطوائف والمناطق، لكن الفكرة التي حاولت أن تخرج إلى النور مراراً، خصوصاً بعد انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لم تجد مكانها الفعلي، بحكم الموروثات الثقيلة التي يرزح تحتها عديدون من صنّاع هذه الانتفاضة والذين شاركوا فيها. يتعلق الأمر تحديداً بالذهنية، خصوصاً حب السلطة والنفوذ والتصرّف كأي حزبٍ تقليديٍّ آخر في لبنان. لا يُمكن القول إنك "تفهم أكثر من الجميع، وإن الآخر لا يريد التحرّر من الشعارات الكبرى". هنا تصنع شعاراً كبيراً وتحاول فرضه على الأفراد، فتجد نفسك وكأنك أصبحت فئة سياسية أخرى في مجتمع راسخ منذ عام 1943، وتنتفي معه إمكانية التغيير.
صحيحٌ أن مفهوم لبنان المولود في الأغاني والفولكلور مختلفٌ عن لبنان الحقيقي، إلا أن هذا لا يعني إمكانية استيلاد نقاط التقاء بين مختلف الأفراد، لصياغة مجتمع يتوافق على مفاهيم أساسية، تعنيه على المستوى الشخصي أولاً، لتسمح لاحقاً بالدفاع عنها ثانياً حيال أي محاولةٍ لسحبها منه. البديهيات، من كهرباء وماء ودواء وتعليم وأمان اجتماعي، هي ما تجمع الأفراد، وهي النقطة الأهم لصناعة مجتمع. وهو ما أدركته دول عدة وتعمل بوحيه، مع أن هذه الدول مولودة من إقطاعيات مفكّكة أو حدود متغيّرة. هل يُمكن فعل ذلك في لبنان، نظرياً نعم، لأن حجم المآسي الهائل قادر على توحيد أفراده، لكن على يد من؟ هنا كل القضية.