احذروا اليمين العربي المُتطرّف

13 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

نجتهد في نقد اليمين الغربي الذي يتبنّى نهجَ التعصّب القومي، وننسى اليمين الذي يعيش بيننا، ذلك الذي يزدهر مع تلاشي الشرارات الديمقراطية في المنطقة العربية، حاملاً وجوهاً عديدة. وإذا كانت الأجيال الجديدة محظوظة بعدم لحاقها بهوس أحلام الوطن العربي، إلّا أنّها رأت ما يكفي من حُطامه، وبدأت من الصّفر رحلةَ الهُويَّات الضّائعة، لتتعثّر بدورها بأصنام أخرى عليها كسرها.

لم يعد كثيرون يقبلون صفة "العرب" باعتبارها مظلّةً جامعةً، فالتعدُّد الثقافي صار مسموعَ الصّوت داخل المنطقة مع ديمقراطية التواصل والوعي الذاتي. هذا في حدّ ذاته أمر إيجابي، فللمكوّنات الأخرى في المنطقة الحقُّ في الوجود العلني والاعتراف. ولهذا، أنسب تسمية لنطاق العالم العربي هي "المنطقة العربية"، فهو مسمَّىً يحترم تعدّد الثقافات واللغات في المنطقة، ويُعبّر عن مشتركٍ لغوي وثقافي جامع بين دول المنطقة، هو اللغة العربية. لكن هناك منطقة وسطى بين الفخر بالثقافات المحلّية وشوفينيَّتها، مع الخطابات الداعية إلى أفضلية كلّ دولة على العالمين، فحدث الانتقال من التطرّف في محو الذات، إلى التطرّف في تضخيمها.

من أبرز مظاهر اليمينية ربط الولاء للسلطة بالوطنية، ومعارضة السلطة بخيانة الوطن، فكلّ معارض للسلطة مدفوع بأيد خارجية، ما أوجد وطنيةً مزيّفةً، يبدأ فيها المُصرِّحُ برأيه بإثبات ولائه للسلطة وللملك أو للرئيس، ثمّ يُعارِض ما يُعارِضه، فأفرزت فراخُ اليمين نُخَباً زائفةً مكوّنةً من عناصرَ متسلّقة من صحافيين وفنّانين ومُؤثّرين... يحتكرون الخطاب الشعبوي الشوفيني، الذي يخلق الجدل، ويثير نزاعات مع شعوب أخرى مثلما يحدث بين المغرب والجزائر.

في المغرب صُنع (على الطلب) ما يُسمَّى "تمغرابيت"، أي الهُويَّة المغربية على وزن "تمازيغت"، وتعني الأمازيغية بلغتها. هذه اللّافتة رَوّجت خصوصيةً محلّيةً لا مثيل لها شرقاً أو غرباً، مع العلم أنّ ميزة المغاربة هي انفتاحهم وتواضعهم، لا الانكفاء على الذات. هذا الخطاب الذي يُروّجه المُقرَّبون من الدولة العميقة، تزامن مع ترويج التطبيع، الذي يقال إنّه في مصلحة المغاربة، بعيداً عن أيّ "نهج عروبي تغريري".

هو توجّه يعتقد نفسه براغماتياً، كأنّ المذهب النفعي قد أفاد أحداً من قبل. لن نذهب أبعد لنجده في الجارة الجزائر، حيث لا يمكن سوى أن تلاحظ السعيَ الجاهدَ لمُؤثّرين يسيرون في خطّ النظام، لتمجيد ما هو محلّي، وكأنّ البلاد كوكب فريد عن غيره من البلاد، مرفوقاً بخطاب يجعل الرئيس والبلاد في خطّ واحد.

في تونس بلغ رفضُ بعض الفئات المهاجرين الأفارقة، الذين اضطرّتهم الظروف إلى حلم الهجرة، درجةً خطيرة، رغم أنّ حُرقة الحلم الأوروبي تجمع شمال أفريقيا وجنوبها. ونحن أولى بتقدير حمّى الهجرة، ومغناطيس العنصرية. صحيح أنّ المهاجرين السرّيين يُشكّلون عبئاً على المجتمع لأنّ وضعهم مُعقَّد، لكنّها مسؤولية الدولة لا المواطنين، كل ما على الأفراد هو مطالبة الدولة بإيجاد حلّ لا خوض مواجهة معهم. لا ننسى أنّنا في دول صدّرت المهاجرين كالسمك منذ الاستقلال، ومثلهم كانوا الآباء والأجداد، ينتشرون في شوارع بلاد الآخرين بلا عمل ولا مال. وكانوا هم أيضاً طارئين.

في لبنان، شاهدنا كيف يُعامَل بعض اللاجئين السوريين. صحيح أنّ الأزمة قاتلة، ولبنان غارق في مشاكلَ لا حدّ لها، لكن ما العمل إذا كان جيرانهم يُقتلون من نظام ارتكب فظائعَ في حقّ شعبه؟ ... لهذا نجد في النموذج المصري الإيجابي في استقبال اللاجئين السوريين والسودانيين، على كثرتهم وسوء الأوضاع المعيشية، دليلاً على أنّ الإنسانية على ضيق الظروف تتّسع في الأزمات. لكن في مصر أيضاً تزدهر نُخْبَة الرئيس السيسي، ويمينيّوه، الذين ما زالوا يؤيّدون انقلاب السيسي، لأنهم يمقتون الإخوان المسلمين فقط.

لكنّ أكبر ضحايا الانتقال من الوهم الوحدوي العربي إلى الشّوفينيات الحديثة هي القضية الفلسطينية، التي أثّر تسويقها قضيةَ العرب والمسلمين الأولى في تعامل بقية العالم معها مدّةً طويلةً، وغفل عن أنّها عملية اغتيال شاملة، تبدأ من الأرض والحياة، لكنّ إسرائيل أصرّت على لفت أنظار الإنسانية إليها، بمواصلتها أعمال الإبادة الجماعية.

كم من قضية عادلة ضيّعها المدافعون عنها. وكم هي شديدة الغنى والجفاف، كثيرة الجذور قليلة الشّجر، هذه المنطقة.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج