إيران ووكالة الطاقة الذرية: نهاية اللعبة؟
ما أن أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية العثور على يورانيوم مخصّب بنسبة 84% تقريبا في أحد المواقع النووية الإيرانية (منشأة فوردو) حتى تحرّكت الأمور بسرعة مدهشة بين الوكالة وإيران، إذ وصل إلى طهران السبت الماضي رئيس الوكالة، رفائيل غروسي، وفق شروطه، وأبرزها ترتيب اجتماع مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الذي امتنع عن استقباله في زياراته الثلاث السابقة إلى طهران، وتم في هذا الاجتماع القصير التوصّل سريعا إلى اتفاق، قدّمت فيه إيران تنازلات مهمة، أبرزها السماح بإعادة تركيب كاميرات مراقبة سبق نزعها في مواقع نووية عديدة، أبرزها فوردو ونطنز، وزيادة زيارات فرق التفتيش بنسبة 50%، والموافقة على منح المفتشين الدوليين إمكانية الوصول إلى ثلاثة مواقع نووية غير معلنة، سبق لهم أن زاروها عام 2020 وعثروا فيها على يورانيوم مخصّب. في المقابل، حصلت إيران على تبرئةٍ من غروسي الذي قلّل، في مؤتمره الصحفي في طهران، من أهمية العثور على يورانيوم مخصب بنسبة 84%، وحال ذلك دون صدور قرار إدانة لإيران في اجتماع حكام الوكالة الذي حصل الاثنين (بعد يومين من اتفاق غروسي - رئيسي).
هناك نظريات عدة لمحاولة فهم ما جرى في الأيام القليلة الماضية بين إيران ووكالة الطاقة الذرية الدولية، وحول التنازلات التي قدّمتها طهران، منها أن إيران تعمّدت عثور مفتشي الوكالة على اليورانيوم عالي التخصيب، والذي يقترب من نسبة الـ 90% اللازمة لصناعة قنبلة نووية، وذلك في محاولة جديدة للضغط على إدارة بايدن، للعودة إلى طاولة المفاوضات التي توقفت نهائيا في أغسطس/ آب الماضي، بعد الكشف عن تزويد إيران روسيا طائرات مسيّرة استخدمتها في الحرب على أوكرانيا. منذ ذلك الحين، شدّدت الولايات المتحدة عقوباتها على إيران، كما شدّدت الرقابة على أنشطتها الإقليمية، وأشاحت وجهها عن المفاوضات النووية، في مقابل التركيز على قمع إيران الحركة الاحتجاجية التي انطلقت في سبتمبر/ أيلول الماضي على إثر مقتل الشابة الكردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق الإيرانية. وتعدّ هذه الاستراتيجية، أي استراتيجية التحلّل التدريجي من الالتزامات النووية، استمرارا لسياسة إيرانية قائمة منذ عام 2019، عندما ألغت واشنطن إعفاءات تصدير النفط الإيراني، وبدأتها طهران برفع نسب التخصيب من 3,67% المنصوص عليها في اتفاق 2015 وصولا الى 60%، فضلا عن فصل كاميرات المراقبة التي نصبتها الوكالة الدولية لمراقبة منشآت ايران النووية، ثم زيادة مخزون اليورانيوم المخصّب عن المستوى المسموح به في اتفاق 2015 (300 كغ) إلى عشرة أضعاف (حوالي 3440 كغ)، إضافة إلى تقييد وصول مفتّشي الوكالة الدولية إلى منشآت نووية حسّاسة وزيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، وتشغيل أجيال جديدة منها. أما بخصوص التنازلات التي قدّمتها إيران للوكالة الدولية فربما كان الغرض منها إبداء استعداداها للمرونة، إذا وافقت واشنطن على العودة إلى طاولة المفاوضات.
ولكن الحقيقة أن إيران، لم تجن أي مكاسب من هذه الاستراتيجية، أي استراتيجية التصعيد. ومن غير الواضح كيف ستقرأ واشنطن تنازلات إيران المعلنة أخيرا، هل تعتبرها مؤشّر ضعف، ما يستدعي مزيد من الضغوط، أم فرصة ينبغي اغتنامها لإعادة إيران إلى قفص الرقابة الدولية؟ يفتح هذا الأمر الباب أمام النظرية الثانية، أن وكالة الطاقة الذرية الدولية فاجأت إيران بكشف اليورانيوم المخصّب بنسب قريبة من تلك اللازمة لصناعة سلاح نووي، ما يعني أن الوكالة صار بمقدورها الإعلان أن برنامج إيران النووي يحمل صبغة عسكرية، بعد أن كانت الوكالة خطت خطوة بهذا الاتجاه الصيف الماضي، عندما قالت إنه لم يعد بمقدورها تأكيد الصبغة السلمية لبرنامج ايران النووي. وهذا يعني ارتفاع احتمالات التصعيد العسكري مع إدارة بايدن التي أعلنت أنها بصدد الإعداد لخيارات عسكرية لمواجهة التطور المضطرد في برنامج إيران النووي. أيا تكن الحقيقة، يبدو أن لعبة "الغمّيضة" بين إيران ووكالة الطاقة الذرية بلغت نهايتها، فإما أن تعلن إيران نفسها قوة نووية في نهاية هذا العام، أو أن تتلقّى ضربة استباقية تدمّر برنامجها النووي، أو يتم التوصل إلى اتفاقٍ لمنع الاحتمالين.