إيران بين أيلول"ين"
ليس من قبيل المبالغة القول إنّ سلسلةَ الأحداث التي شهدها شهر سبتمبر/ أيلول 2024، في لبنان خصوصاً، ستؤدّي إلى تغيير وجه المنطقة على نحو غير مسبوق منذ أحداث 11 سبتمبر (2001). استفادت إيران، خلال العقدَين الماضيَين، من "الحرب الأميركية على الإرهاب" التي أسفرت عن إسقاط عدوَّي إيران الرئيسَين في المنطقة (نظامي طالبان في أفغانستان وصدّام حسين في العراق)، لبناء قوس نفوذ غير مسبوق منذ أيّام الدولة الصفوية، تبلور بوضوح بعد ثورات الربيع العربي، وامتد من جبال هندوكوش شمال أفغانستان إلى البحر المتوسّط. يبدو أن هذه المرحلة شارفت على نهايتها. وكما استفادت إيران عرَضاً من ظروف لم تصنعها بعد أحداث 11 سبتمبر للخروج من حال الضعف والانهيار، التي كانت تعيشها بعد الحرب مع العراق (1980 - 1988)، فإنّها تدفع اليوم عرَضاً ثمنَ قرار لم تشارك في صنعه، عندما أطلقت حركة حماس عملية طوفان الأقصى، التي يُرجَّح أن تفقد إيران بنتيجتها ما بنته كلّه من نفوذ على مدى عقدَين، هذا إذا لم تصل الحرب إلى عُقر دارها، بعد إخفاقها في الدفاع عن حلفائها، على ما دلّلت عليه أحداث الأسبوع الماضي في لبنان، وقبل ذلك في غزّة.
تركّزت استراتيجية إيران خلال العقدَين الماضيَين في ما أسمتها عقيدة "الدفاع المُتقدِّم" القائمة على بناء أدوات نفوذ لها خارج حدودها تؤسّس من خلالها قدرةَ ردعٍ تمنع خصومها من مهاجمتها. وقد بنت إيران على مراحل خطوط دفاعية مُتعدَّدة، استهلّتها من لبنان بإنشاء حزب الله بعد الغزو الإسرائيلي عام 1982، ثمّ العراق، بتشكيل فصائل الحشد الشعبي بعد الغزو الأميركي عام 2003. كما حاولت في سورية واليمن بعد ثورات 2011 إنشاءَ أو دعم مليشيات محلّية وأخرى مستوردة، رغم أنّ حزب الله ظلّ استثمارها الخارجي الأكثر أهمّيةً وكفاءةً. ومن خلال هؤلاء خاضت إيران حروبَ وكالةٍ ضدّ خصومها بعيداً من أراضيها، ومن دون أن تتورّط هي نفسها مباشرة. لقد نجحت هذه الاستراتيجية عقدَين تقريباً في ردع إسرائيل وأميركا عن مهاجمة إيران، إلى أن تمكّنت إسرائيل في سبتمبر/ ايلول 2024، من إنزال ضرباتٍ قاسيةٍ بحزب الله، سيكون لها على الأرجح نفس أثر أحداث سبتمبر 2001 في النظام الإقليمي، إنّما بالاتجاه المعاكس، أي باتجاه تحجيم نفوذ إيران المتضخّم.
يُنتظَر في حروب الوكالة من القوى الفاعلة أن تمدّ حلفاءها (وكلاءها) بكل أشكال الدعم، بما في ذلك التدخّل مباشرةً إذا احتاج الأمر مساعدتهم، أقلّه لمنع هزيمتهم. هذا ما فعله الاتحاد السوفييتي مثلاً في أفغانستان عام 1979، وما فعلته روسيا في سورية عام 2015. وبالفعل، أمل بعضهم (وما زال) أن تتدخّل إيران، في مرحلةٍ ما، لمنع استفراد إسرائيل بحزب الله (دع جانباً "حماس" لأنّها قصة مختلفة). لكن حروب الوكالة تفترض أيضاً التضحيةَ بالوكيل، باعتبار أنّ إنشاءه جرى أصلاً لهذا الغرض، وهو ما اختارته إيران في الصراع الحالي بين إسرائيل وحزب الله. تجادل إيران أنّ إسرائيل إنما تسعى لتوريطها في حرب تضعها في مواجهة مع أميركا، لكنّ إيران لا تدرك أنّها بسلوكها هذا إنّما تُؤجّل المحتوم، لا تلغيه، وأنّ نظامها الذي رضي من الغنيمة بالسلامة، قد يكون خطا خطوتَه الأولى نحو الهلاك، بمُجرَّد أن تنتهي إسرائيل من القضاء على خطوط دفاعه المُتقدّمة. بهذا المعنى تكون إيران قد قوّضت بنفسها جوهر عقيدتها القتالية التي صرفت دهراً وهي تعمل عليها. نعرف جميعاً أنّ ما منع إسرائيل حقّاً، وربّما الولايات المتّحدة، على مدى عقود من توجيه ضربة لإيران هو خشيتها من أن تدفع إيران وكلاءها إلى فتح أبواب الجحيم على إسرائيل، خاصّة من لبنان. الآن، وقد تمكّنت إسرائيل من تحييد خطوط إيران الدفاعية، ما عاد هناك ما يمنع من استهداف إيران نفسها. تظنّ إيران، كما ظنّ حزب الله خطأً، أنّها قد تنجو إذا تجنّبت الدخول في المواجهة مباشرة. هذا لن يحصل، فإسرائيل تستفرد بحلفاء إيران الواحد تلوَ الآخر، وقد لمست من إيران ضعفاً وخوفاً، وبهذا صارت كالوحش الذي اشتمَّ دماً ليس مغادراً قبل أن يتذوَّقه.