إلى الطاهر بن جلّون: هل سمعتَ بنوريت بيليد؟
السيد الطاهر بن جلّون: بعد تحيّة طيّبة:
لا تعرفني، ولا أعرفُك، وإن صادفتُك مرّاتٍ عابراتٍ قليلات، ربما تصافحْنا في إحداها. لكنّي قرأتُ عدّة رواياتٍ لك (بالعربية)، وفيّ إعجابٌ ببعضِها، وأحرصُ على قراءة ما يُترجَم من مقالاتٍ لك، وأتابع، ما أمكن، أخبارا تخصّك. وطالما تساءلتُ، في الأثناء، عن أسباب خفوت صوتك (أو غيابه؟) في الانتصار للقضايا العربية في المشهد الثقافي والإعلامي الفرنسي، وأنت الذي لك مكانةٌ ومنزلةٌ في فرنسا التي تقيم فيها منذ عقود، وتحمل جنسيّتها وتكتُب بلغتها، وكرّمتك غير مرّة.
ليس هذا موضوع رسالتي إليك هنا، وإنما مقالُك الصادم، الكريه، المرفوض، المنشور في مجلة لوبوان الفرنسية في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وغاليْتَ فيه، وبدوْتَ فيه كأنك عضوٌ في "كابينت" الدعاية والكذب الأسود الإسرائيلي. لك أن تنتقد قتل المدنيين الإسرائيليين، أو تدينُه إن شئت، غير أنه سؤالٌ إليك: كيف عرفتَ أنّ مقاتلي "حماس" في عملية 7 أكتوبر قتلوا مدنيين عمْداً؟ لم تُعرَف تماماً تفاصيل ما جرى بالضبط عندما هبطوا في مواقع عسكرية ومستوطناتٍ وكيبوتزاتٍ إسرائيلية، وأمكن لهم قتل أكثر من 170 عسكرياً، وأسر ضبّاط وجنودٍ عديدين. لقد استفظعتَ، بفائضٍ من الإنسانية، ما صنعه هؤلاء في صباح ذلك السبت، وشعرتَ بالحزن، وبالخزي كإنسان، وبالاشمئزاز، وبالرّعب بعد أن شاهدت الصور. والسؤال لك هنا: أيّ صورٍ بالضبط شاهدتَ، حتى اجتاحك هذا الطوفان من المشاعر، و"أثّرت في أعماق إنسانيّتك"؟ لو تدلّنا عليها، لنرى ما رأيت. كيف تُجيز لنفسك أن تزاود على وزير الحرب الإسرائيلي في نعته ناس غزّة بأنّهم حيوانات، فتكتُب إنّ الحيوانات ما كانت لتفعل ما فعلته "حماس"؟ أليس فيك شيءٌ من التأدّب، فلا تسقط في هذه السفاهة؟
سؤالٌ آخر: هل سمعتَ بنوريت بيليد؟ باختصار، قالت ما كان عليك أن تكتُب، لمّا بلغتْك الأنباء عن عملية مقاتلي القسّام البواسل التي سقط في غضونها مدنيون إسرائيليون. فقدت هذه السيدة الإسرائيلية ابنتَها الوحيدة في عملية استشهادية في القدس المحتلة في سبتمبر/ أيلول 1997. امتنعَت عن قبول التعزية من رئيس الوزراء في حينه، نتنياهو (زميلها في المدرسة في صباها)، لأنّ حكومته، وغيرها من حكومات متطرّفة في إسرائيل، كما قالت، هي المسؤولة عن مقتل ابنتها، لأنّها أدخلت اليأس إلى نفوس الشباب الفلسطيني وحرمتهم من أرضهم ومياههم وكلّ حقوقهم الإنسانية. وقالت، أيضاً، إنّ العملية التي أودت بابنتها (13 عاماً) وغيرها، كما عملياتٌ مماثلة، هي نتاج القهر والحصار والاستعباد الذي تفرضه إسرائيل على الشعب الفلسطيني.
كان عليك، لو تخفّفت من فائض الإنسانية فيك لحظاتٍ، أن تعقّب على سقوط مدنيين إسرائيليين في عملية 7 أكتوبر، بمثل هذا الكلام، لا بإشهارِك موت القضية الفلسطينية. وأُخبرك هنا إن نوريت بيليد (74 عاماً) أستاذة في الجامعة العبرية، وإنّها في خطاب لها أمام البرلمان الأوروبي، في ستراسبورغ في أغسطس/ آب 2010، قالت لمستمعيها إنّ الأوْلى كان أن تُدعى للكلام، بدلاً منها، أمّ فلسطينيةٌ. وأهدت خطابها لأمٍّ فلسطينيةٍ وزوجها من بيت لاهيا في قطاع غزّة، قتلَ جنودٌ إسرائيليون أطفالَهما الخمسة، وهم يجمعون الفريز في حقل الأسرة.
السيد بن جلّون: سألتَ في "ليبراسيون"، في أغسطس/ آب 2014: لماذا لا تُقدّم الدول العربية لسكّان غزّة الوسائل المالية والعسكرية حتى يقاوموا وحشيّة الجيش الإسرائيلي؟ الإجابة عن سؤالٍ ساذج كهذا معلومة. لكن، ها هم مقاومون بواسل فعلوا في الجيش الإسرائيلي صنيعاً لم يشهَد مثلَه. بدلاً من أن تحيّي بطولتهم وما أنجزوا، أفضيتَ بما دلّ على بؤسٍ كثيرٍ في فهمِك الحالة الفلسطينية عموماً، وكان الظنّ أنك على معرفةٍ جيّدةٍ بها، وأنت الذي كتبتَ قصيدةً عن الألم الفلسطيني إبّان مجزرة تل الزعتر في 1976. وحتى تتزوّد بمعرفةٍ أوفى، لتكتبَ أفضل من السّخف المُدان الذي كتبتَه، لو تقرأ كتاباً لنوريت بيليد، وهي ابنة جنرال سابق في الجيش الإسرائيلي بالمناسبة، عن صورة الفلسطيني في الكتب المدرسية الإسرائيلية (تُرجم إلى العربية)، وفيه إنّ الأطفال الإسرائيليين يتعلّمون في المستوطنات وغيرها كيف يصيرون جنوداً جيّدين ليقتٌلوا أطفالاً فلسطينيين.
السيد الطاهر بن جلّون: سارت 81 تظاهرة في 52 مدينة في بلدك المغرب في يومٍ واحد، لنُصرة غزّة وأهلها في غضون العدوان الجاري. هذا بعضُ ردٍّ على ما ارتكبتَ من رداءةٍ مُدانة. ... دُمتَ بخير.