إلغاء الأدمغة منهجيّاً
أصرّ كولومبس بعد أن وصل إلى الأراضي الأميركية على أنه بلغ الجزر الهندية الشرقية الرائعة التي وعد ملوك إسبانيا الذين موّلوا رحلته بأنها ستجلب لهم الذهب والعاج والبهارات النادرة. قال كولومبس: "أعطوني سفناً. أعطوني فقط سفينة واحدة وسآتيكم بالذهب من الشرق الخلاب". وبعد مفاوضات صعبة مع ملوك إسبانيا الذين كانوا للتوّ قد أخضعوا غرناطة لحكمهم، مُنهين نحو ثمانية قرون من حكم العرب الأندلس، أعطوه سفينتين شراعيتين لم تكونا في حالة جيّدة، لأنهم لم يكونوا واثقين تماماً من نجاح رحلته، فيما استأجر هو الثالثة. كان اليأس قد دبّ في صفوف بحّارته، وباتوا يصرّون على العودة من حيث أتوا. حين لاحت الأرض الأميركية من بعد، لم تكن تلك الهند التي كان على كولومبس أن يبحر نحو شهرين آخرين كي يبلغها، ولكن قبل ذلك سيكون بحّارته قد هلكوا، وقد تكون سفنه الثلاث قد غرقت. كانت تلك أميركا، التي أرادها المغامر كولومبس هنداً.
من يومها، بدأ عصر جديد في التاريخ البشري، وتبدو مفارقةً أنّ ذلك كله جرى بالمصادفة وحدها. حتى لو كانت آتية لا ريب فيها ولو بعد حين. ثلاث سفن متهالكة تقصد الهند، فتجد أميركا في طريقها. ستجعل هذه المصادفة من كتابة التاريخ صنعة غربيّة، كأنّ التاريخ لم يكن إلا في الغرب وحده: أوروبا، وتاريخ الوافدين الأوروبيين للأرض الجديدة المكتشفة الواقعة خلف الأطلسي، وكأن لا تاريخ سابقاً للبشرية قبل هذا التاريخ في الشرق البعيد، وحتى لدى السكّان الأصليين في الأرض المكتشفة الذين أسماهم كولومبس هنوداً، لمجرّد أن مقصده كان الهند.
المنسيُّ في هذا كله أنّه لم يكن بوسع الرجل الأبيض في شخص كولومبس نفسه الإقدام على مغامرته، لولا اختراع شرقي عظيم اسمه البوصلة، تلك القطعة الممغنطة من الحديد المتّجهة نحو الشمال دوماً التي اخترعها الصينيون، وقادت سفنه إلى الأرض الجديدة. في كلّ بلدٍ خضع للاستعمار خلّف المستعمرون وراءهم، حين رحلوا، مستويين من المعيشة: ما يطلق عليها فرانز فانون "المدينة الكولونيالية"، الحديثة، المتطورة، والمدينة الأخرى، غير الكولونيالية، ما قبل الحديثة.
المدينة الأولى جيّدة الإضاءة والتغذية وهادئة ومنظمة، وخالية من العنف، يمشي فيها الناس في شوارع واسعة، وفي هذه المدينة يعيش المستوطنون الأوروبيون الذين جاء بهم الاستعمار ليديروا البلد المستَعمَر، وينظّموا استغلال ثرواته، وربما نال النعيم شريحة محدودة من سكان البلد الذين درّبهم المستعمر وعلَّمهم كي يستعين بهم في بعض الوظائف. الحال في المدينة الأخرى، حيث السكّان الأصليّون، تذكِّر المرء بالسطور الأولى من قصيدة سيزار "العودة": إنها "مدينة جائعة، تعاني الحرمان من اللحم، من الأحذية، من الفحم، من الإضاءة، وتتمرغ في الوحل". فلا مدارس يعتدّ بها، ولا مستشفيات أو مراكز صحية، ولا شوارع مبلطة، ولا مرافق صحية. في بيئة مثل هذه لا يمكن إلا أن يعمّ الجهل والأمية والتخلف والأمراض. البنية الأساسية التي أنجزها المستعمرون حُصرت بغرضين أساسيين: الأول، تأمين شروط الهيمنة على الثروات المتاحة ونهبها وتصديرها إلى المركز. والثاني، توفير الحياة المريحة لمن استقدموا من مستوطنين من مواطني الإمبراطورية التي أخضعت البلدان البعيدة لسيطرتها. من أجل تأمين استمرار السيطرة الاستعمارية أطول أمد ممكن على هذه البلدان، وجب إبقاء شعوبها في هذه الحال من الجهل والتخلف.
يُنسب إلى المستشار البريطاني في البحرين تشارلز بلجريف قوله ردّاً على مطالبة الأهالي بابتعاث بعض أبنائهم لدراسة الحقوق، كي يتعرفوا إلى القوانين ويتمكنوا من وضعها: "لن يحتاج البلد حتى لمحامٍ واحد خلال المائة عام المقبلة". كان هذا القول في منتصف القرن العشرين تقريباً. عدد المحامين في البحرين، وقد بتنا في القرن الحادي والعشرين، يُعَدّ بالآلاف لا بالمئات. تُرى كيف سيكون الحال لو بقيت الكلمة لمثل هذا المستشار؟
حين كتب فرانز فانون، مؤلف "معذّبو الأرض" و"بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" استقالته من مستشفى بليدة بالجزائر الذي كان يعمل فيه طبيباً نفسياً، فترة الاستعمار الفرنسي، قال فيها: "المشروع الكولونيالي في الجزائر مشروع إلغاء دماغ شعب بصورة منهجية". أيّ مدى من الشجاعة يمتلكه ورثة الإمبراطوريات الاستعمارية اليوم في الإقرار بما اقترفته أيادي أسلافهم من تجهيل وإفقار أمم بكاملها، ما زالت عاجزةً عن كسر دائرة التخلف حتى اللحظة؟