إعادة اصطفاف تكتيكيةٍ أم خياراتٌ استراتيجية؟
تشهد المنطقة العربية وعموم الشرق الأوسط منذ مطلع عام 2021 (وصول إدارة الرئيس بايدن الى السلطة في الولايات المتحدة)، عملية إعادة اصطفافٍ تكاد تكون غير مسبوقة بشموليتها، إذ تفكّكت التحالفات والمحاور التي ميّزت العقد السابق وتمحورت في جوهرها حول الموقف من ثورات الربيع العربي. تشكّلت خلال الانتفاضات العربية ثلاثة محاور إقليمية، حلّت محل المحورين اللذين ظهرا بعد الغزو الأميركي للعراق (محوري الاعتدال والمقاومة). وكان أحد المحاور الثلاثة يسعى، بوضوح، إلى تغيير الوضع القائم وإنشاء نظام إقليمي جديد عبر دعم الانتفاضات العربية والمجيء بنخب حكم جديدة في دول عربية مهمة (مصر، سورية، ليبيا). وقد مثّل هذه الموقف كل من تركيا وقطر. أما المحوران الآخران فقد كان موقفهما يختلف من مكان إلى آخر، اعتمادا على ما إذا كان التغيير أو الاستقرار يخدم مصالحهما. بناء عليه، ساندت السعودية والإمارات والأردن التغيير في سورية وليبيا، لكنها رفضته في مصر واليمن، أما إيران (قائد المحور الثالث)، فقد دعمت التغيير في مصر واليمن، ورفضته في سورية، ولم تستسغه في ليبيا.
انتهت هذه الاصطفافات الآن أو في طريقها إلى ذلك، حيث تحاول دول المنطقة جميعا تبنّي مقاربة جديدة توحي بتجاوزها مرحلة الانتفاضات العربية، بعدما سقطت المنطقة، نتيجة صراعات المحاور الثلاثة، في براثن الفشل والفوضى. ورغم "النجاح" الذي حقّقته دول الخليج العربية في إنقاذ حكم العسكر في مصر وتمكّن إيران، بدعم روسي، من إنقاذ نظام الأسد في سورية، إلا أن تكاليف هذه "النجاحات" كانت باهظة، كما تبقى استمراريتها موضع شك كبير، نظرًا إلى التحدّيات الكبرى التي يواجهها النظام المصري في إدارة اقتصاد بلد مهدّدٍ بالانهيار، والدمار الذي لحق بسورية والتمزّق الذي طاول فيها الدولة والمجتمع، وصار عصيًا على الرتق.
تركيا التي فشلت في تحقيق غاياتها من ثورات الربيع العربي، وحصدت نتيجة ذلك أوضاعا اقتصادية صعبة وعلاقات خارجية معقّدة، كانت أول من بدأ الاستدارة نحو روسيا أولا ثم إيران، فغيّرت سياستها السورية اعتبارا من عام 2016، ثم راحت تُصلح علاقاتها بدول الخليج التي نازعتها مصر اعتبارا من عام 2020، قبل أن تشرع أخيرا بإنهاء خلافها مع القاهرة بإقرار الأمر الواقع. أما السعودية، التي كبّدتها حرب اليمن تكاليف باهظة، فقد وافقت على مقترح لإطلاق حوار مع إيران في بغداد منذ ابريل/ نيسان 2021، توصل أخيرا، بوساطة صينية، الى اتفاق ينهي القطيعة الدبلوماسية مع طهران، ومع نظام الأسد أيضا بوساطة روسية. إيران هي الأخرى تحاول منذ وصول إبراهيم رئيسي الى الحكم صيف عام 2021 استعادة العلاقات مع دول الخليج، وتلمّح إلى استعدادها لتسوياتٍ في اليمن وسورية، بعدما طحنتها الأزمات والعقوبات، ويواجه نظامها حركة احتجاجات تكاد لا تتوقّف (4000 نقطة احتجاج فقط خلال عام 2022).
واضحٌ أن قادة المحاور الثلاثة التي نشأت في مرحلة الربيع العربي (إيران وتركيا والسعودية) باتوا، بعد عقد من الصراعات المدمّرة، التي زادها سوءا تضافر أزمات عديدة (كوفيد 19، التضخّم، ارتفاع أسعار الغذاء، التغير المناخي، حرب أوكرانيا، تصاعد التنافس الدولي ... إلخ)، مستنزفين إلى درجة اضطرّوا معها إلى إعادة النظر في سياساتهم، والانتقال من مقاربات صفرية (رابح - خاسر) إلى مقاربات أكثر ليبرالية في السياسة الخارجية، تتعاون بموجبها الدول في إطار تنافسي وفق معادلة (رابح - رابح). إذا كان هذا ما باتت تؤمن به نخب الحكم في منطقتنا فهذا يعدّ بحق تطورا كبيرا وتغيرا عميقا في طريقة تفكيرها التي تحيلنا عادة إلى سياسات القرن الثامن عشر الأوروبية القائمة على القوة والصراع وزئبقية التحالفات. لكن هناك مسألتين كبيرتين يمكن أن تجعلا هذا التحوّل مثار شكوك: أنه يتم بمعزل عن الإرادة الأميركية وأحيانا بطريقة تعاكس مصالحها، مثل رعاية الصين الاتفاق السعودي الإيراني، الذي يعزز دور الصين في منطقة نفوذ أميركي، وأن الشرق الأوسط يتجه نحو مقاربة "ليبرالية" في السياسة الخارجية، في حين يتجه المستوى الأعلى في النظام الدولي نحو مقاربة "واقعية"، حيث تتزايد احتمالات المواجهة بين القوى الكبرى (روسيا والولايات المتحدة والصين). وتبرُز هنا تساؤلاتٌ حول قدرة النظم الإقليمية على سلوك مسلك معاكس لمسلك النظام الدولي، في حين أنها تعد تقليديا مرآة له.