"إصلاحيو" إيران والحرب على غزة
في ظلّ الانشغال بحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة منذ نحو خمسة شهور، مرّت، من دون انتباه، تصريحات صادمة أدلى بها وزير خارجية إيران السابق، جواد ظريف، في مؤتمر عُقد في طهران أخيراً، قال فيها إنّ "الشعب الإيراني منهكٌ من الاستمرار في دفع أثمان اتخاذ الحكومة مواقف متشدّدة من إسرائيل". وذهب ظريف إلى أنّ المرشد، علي خامنئي، "تعرّض لضغوط من المتشددين من أجل التدخّل في الحرب الدائرة في غزّة"، لكنه (المرشد) تبنّى "سياسة حكيمة بعدم دعم التطرّف"، والنأي بإيران عن الهجمات التي يشنّها بقية أعضاء "محور المقاومة" ضد إسرائيل أو القوات الأميركية في المنطقة.
الخلاف حول توّجهات السياسة الخارجية والعلاقة مع الغرب كانت حاضرة دوماً في النقاش العام في إيران منذ أيام الرئيس السابق محمد خاتمي (1997 - 2005)، لكن حرب غزّة أظهرت، لأول مرّة ربّما، عمق الانقسام داخل دوائر النظام، وفي أوساط النخب الإيرانية عمومًا بشأن الموقف من القضية الفلسطينية. ورغم أنّ تصريحات ظريف أثارت موجة من الاستياء بين المحافظين، حيث اتّهمه بعضهم بالجبن وبإضعاف موقف إيران السياسي، بيد أنّ تلك التصريحات كانت تعبّر بدقّةٍ عن موقف النظام الذي حدّده خامنئي منذ اليوم الأول للحرب "إيران ترحّب بعملية طوفان الأقصى، إنما لا علاقة لها بها". هذا الموقف أكّد عليه خامنئي مرّة أخرى عندما زاره رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، يطلبُ منه دعماً فعليّاً لنصرة غزّة. ردّ خامنئي على ضيفه بطلب "إسكات الأصوات" من داخل الحركة التي تطالب إيران وحزب الله بتفعيل اتفاق "وحدة الساحات" ودخول الحرب إلى جانب "حماس". رئيس البرلمان السابق، غلام علي حداد عادل (ابنته متزوّجة من ابن المرشد مجتبى خامنئي)، عبّر عن موقف مماثل: "من غير الواضح من وجهة نظر استراتيجية كيف يمكن أن يؤدّي دخول إيران الحرب في غزّة إلى تحقيق فائدة للقضية الفلسطينية".
واقع الحال، أن النظام الإيراني، الذي درج، شأن أنظمة عديدة في المنطقة، على الهروب نحو الخارج، لقمع أيّ أصوات داخلية معارضة وإسكات أيّ مطالبات إصلاحية، يبدو مُحجمًا هذه المرّة عن الاستثمار حتى شعاراتيًا في القضية الفلسطينية ومزاعم مواجهة "قوى الاستكبار العالمي"، مخافة التورّط في مواجهة عسكرية لا قبل له بها فيما تستمر حال التململ التي تشهدها البلاد منذ وفاة الناشطة الكردية مهسا أميني تحت التعذيب على يد "شرطة الأخلاق" في سبتمبر/ أيلول 2022.
وفيما ينشغل النظام الإيراني داخليّاً بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الصعبة، لا يبدو مرتاحًا في بيئته الخارجية أيضا بعد سقوط رهانه على سياسة "التوجّه شرقا" التي تبنّاها إبراهيم رئيسي، بديلا لسياسات "التوجّه غربا" التي تبنّاها الثنائي روحاني - ظريف، وفشلت بدورها بسبب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، وإعادة فرض العقوبات، فالصين التي وقّعت اتفاقًا للتعاون الاستراتيجي مع إيران في مارس/ آذار 2021 بقيمة 450 مليار دولار متردّدة بشأن تنفيذه خشية الاصطدام بالعقوبات الأميركية، وتربطها مصالح أكبر بدول الخليج (حجم التبادل التجاري يصل إلى 220 مليار دولار سنويا في مقابل 16 مليارا مع إيران). وليس لدى روسيا، الغارقة في أوكرانيا، ما تقدّمه لإيران، بل باتت هي المستفيدة من العلاقة معها. الهند، الشريك الكبير الآخر المحتمل، باتت تميل بقوة نحو إسرائيل، حتى أنها تُرسل متطوّعين للقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي في غزّة. تواجه ايران تعقيدات أيضًا في علاقاتها بدول الجوار (أفغانستان، وأذربيجان، وتركيا، وباكستان وإقليم كردستان العراق). في ظلّ هذا الوضع الصعب، يبدو أنّ إيران رضيت من الغنيمة بالسلامة، عندما قرّرت تخفيض وجودها العسكري في سورية (بعد مقتل ضبّاط كبار في الحرس الثوري في هجمات إسرائيلية)، وكان الأوْلى بها فعل العكس لو أرادت نُصرة غزّة. رهان إيران الرئيس الآن هو بقاء الديمقراطيين في البيت الأبيض (يفضّل بايدن)، لأن عودة الجمهوريين (ترامب أو غيره) ستكون كارثة كبرى، أمّا داخلياً فيأمل النظام بمشاركة كبيرة في انتخابات مجلس الشورى تجدّد شرعيّته المهترئة، أما غزّة فقد تبيّن في لحظة الحقيقة أن ليس لها إلا الله.