إشارات واشنطن المتضاربة

21 سبتمبر 2022
+ الخط -

يعدّ اللجوء إلى نظرية المؤامرة في تفسير الظواهر السياسية، خصوصا، عقبةً رئيسة في طريق فهمها، كما ينم استخدامها عن ضعفٍ في التعاطي مع قضايا معقّدة لا تمكّن الأدوات المتاحة من تفكيكها، لكن الإشارات المتضاربة الصادرة عن إدارة الرئيس بايدن، صارت تحيّر أفضل المحللين السياسيين خبرة، بعدما تسببت في اندلاع صراع كبير في أوروبا، وباتت تهدّد باندلاع آخر في شرق آسيا وثالث في منطقة الخليج والشرق الأوسط، فعندما تكون الولايات المتحدة القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في العالم يصعُب على أي صانع قرار، في أي دولة، كبيرة كانت أم صغيرة، اتخاذ أي خطوةٍ في السياسة الخارجية، دع جانبا اغزو بلد آخر، من دون أن يأخذ موقفها بعين الاعتبار. وعليه، عندما بدأ التوتر يتصاعد بين روسيا وأوكرانيا في الشهور الأخيرة من العام 2021 كانت الأنظار منصبةً على واشنطن التي أرسلت بدورها إشاراتٍ متضاربة، ربما تسبّبت في سوء تقدير كبير من طرفي الصراع. فمن جهة، شجّعت واشنطن كييف على رفض مطالب موسكو التعهّد بعدم انضمامها إلى حلف الأطلسي، وجادلت بأن ذلك يعدّ حقا سياديا للدول (أوكرانيا في هذه الحالة) لا ينبغي التجاوز عليه. في المقابل، أشار الرئيس جو بايدن مرارا إلى أن بلاده ليست في وارد التدخل عسكريا إذا قرّرت موسكو غزو أوكرانيا. وربما يكون هذا الموقف المعلن قد شجّع الرئيس الروسي، بوتين، على اتخاذ قرار الغزو، بعدما جرى حشره في الزاوية، ولم يعد أمامه من سبيل إلا استخدام القوة إثر فشله في انتزاع التنازلات التي أرادها من أوكرانيا عن طريق التلويح باستخدامها.

بالمثل، تستمر الولايات المتحدة في إرسال إشارات متضاربة بشأن النزاع بين الصين وتايوان، ما يثير مخاوف كثيرين من أن يتسبّب ذلك في سوء تقدير يقود إلى حرب. ففي أكثر من مناسبة، جديدها قبل يومين، في مقابلة مع شبكة سي بي إس، قال الرئيس بايدن إن بلاده سوف تدافع عن تايوان في حال هاجمتها الصين. لكن، وفي كل مرة يدلي فيها بايدن بتصريح من هذا النوع، تسارع الخارجية، وحتى البيت الأبيض، إلى التأكيد على عدم وجود تغيير في سياسة واشنطن تجاه تايوان، وإنها، أي الولايات المتحدة، ما زالت ملتزمة بسياسة "صين واحدة" التي تبنّتها لدى إقامة علاقات دبلوماسية مع حكومة بكين عام 1979، بعدما سحبت اعترافها بتايوان. وسواء كانت هذه التصريحات تشير إلى انقسام داخل الإدارة الأميركية، أو أنها ناتجة عن تخبّط، أو أنها جزء من عملية تبادل أدوار في إطار ما تسمّى سياسة "الغموض الإيجابي"، فقد بات كثيرون يخشون من أن عدم الوضوح الكافي في موقف واشنطن قد يقود الصين إلى غزو تايوان.

أما بخصوص إيران، وهي القضية الثالثة الكبرى التي يمكن أن تؤدّي الإشارات المتضاربة بشأنها إلى مواجهة جديدة في منطقة معروفة بنزوعها إلى الحسابات الخاطئة، فإن واشنطن تعزّز، من خلال طريقة تعاطيها مع الملف النووي الإيراني، الاعتقاد بأنها لا تملك فعليا خيارا آخر أو بديلا عن العملية التفاوضية. يساهم هذا الأمر في تكوين انطباع، قد يكون خادعا، يستضعف الموقف الأميركي بزعم انهماكه بأوكرانيا ومواجهة صعود الصين، ويشجّع تيارًا في طهران على رفض التضحية بالإنجازات النووية التي تحققت خلال الأعوام التي تلت انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي (2018)، والذهاب حتى النهاية في الحصول على سلاح نووي، باعتباره الضمانة الفعلية التي تُسقط خيار واشنطن العسكري تجاه طهران، وتكرّس بقاء النظام فيها، وهو بالضبط ما قد يدفع واشنطن إلى استخدام القوة لقطع الطريق على هذا المسعى الذي قد يؤدّي في حال تحققه إلى انهيار نظام عدم الانتشار النووي في كل منطقة الشرق الأوسط وما تلاها.

بناء عليه، على واشنطن إذا لم تكن متعمّدة ذلك حقا، بحسب أصحاب نظرية المؤامرة، أن تتوقف عن إرسال إشارات متضاربة في ملفاتٍ خطيرة كالتي ذكرناها، لأن ذلك فقط ما يحول دون سوء فهم أو سوء تقدير يدفع ثمنه ملايين الناس في العالم فقط لأن إدارة بايدن فشلت في بيان موقفها بجلاء.