إسرائيل بعد 45 عاما على "انقلاب 77"
في مثل هذه الأيام قبل 45 عامًا، خسر حزب المعراخ، سلف حزب العمل الحالي، وخلف حزب مباي، سدّة الحُكم في إسرائيل، بعد أن كان الآمر الناهي الوحيد فيها نحو ثلاثة عقود، لمصلحة حزب الليكود بزعامة مناحيم بيغن، الذي أصبح رئيس حكومة. وعُرف انتصار الليكود هذا بـ"انقلاب 1977". غير أن هذا "الانقلاب" يقرأ منذ عدّة أعوام بمفاهيم جديدة، بغية إبراز الهوّة بين ما كان عقب فترة حكم بيغن وورثته التقليديين، وخلال فترة حكم رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، وهي هوّة يصفها بعضهم بأنها سحيقة. وكان أول مؤشّرات الانتباه لها تزامن مع الذكرى السنوية الـ40 لـ"الانقلاب"، ومع ذكرى نصف قرن على احتلال 1967 عام 2017. وتجسّد ذلك المؤشّر، مثلًا، في كتاب إسرائيلي جديد من تأليف أحد قادة الحركة اليمينية الإسرائيلية إم ترتسو (إذا شئتم)، موسوم بعنوان "لماذا تصوّت لليمين فتحصل على اليسار؟"، زعم في سياقه أنه على الرغم من مرور أربعة عقود على تسلّم حزب الليكود اليميني سدّة الحكم في إسرائيل، فإنه لا يرعوي عن مواصلة الحكم من خلال النُخب القديمة التي كانت في معظمها موالية لـ"الحركة الصهيونية العمالية" بزعامة حزب مباي، وعادة ما تُنعت بأنها "يسارية". كما يؤكد أنه فقط في الأعوام الأخيرة بدأ اليمين الإسرائيلي في تغيير هذه النُخب، كي يتحقق "الانقلاب الحقيقي" في المستقبل المنظور.
لعلّ المُثير في هذه المُقاربة واقع حدوث انقلاب من اليمين الجديد في إسرائيل على اليمين القديم، والذي يدلّ عليه اتهامٌ صارخٌ يوجهه مؤلف الكتاب إلى مناحيم بيغن، الزعيم التاريخيّ لليمين الإسرائيلي التقليدي الذي تجسّد في حركة حيروت، ومن ثم في حزب الليكود، بخيانة الناس والقيم اللذين انتخب لرئاسة الحكومة بفضلهما في 1977. ووفقًا لأقطاب في اليمين القديم، يهدف انقلاب اليمين الجديد إلى تحقيق غايتين: خلخلة التوازن الذي كان قائمًا، برأيهم، ما بين القومي والليبرالي، لناحية القومية المتطرفة من دون أدنى موازِن ليبرالي يراعي حرية الفرد وحقوقه. والحُكم بدون أي قيود أو كوابح. ومثلما أشار الكاتب في عدة مناسبات، ينطوي هذا الانقلاب على انعكاسات تتعلق بالسياسة الإسرائيلية الخارجية، ولا سيما حيال القضية الفلسطينية، غير أنه بالأساس يرمي إلى إحداث تغييراتٍ داخلية الهدف الأقصى منها قمع كل من يخالف هذا اليمين الجديد الرأي.
ولا يقتصر الهجوم الذي يتعرّض له بيغن على وصمه بشبهة خيانة مبادئ اليمين، بل يتعدّى ذلك إلى اتهامه بما يمكن توصيفها بالهشاشة الاجتماعية، وبأن عشرات الأعوام التي أمضاها في العمل السريّ قبل قيام إسرائيل وفي المعارضة كانت ذات أثر كبير على سلوكه، إذ تركت لديه مشاعر عميقة بالدونية في مقابل الحركة العمالية الصهيونية ورجالات حزب مباي، ما جعله يرى أن حقيقة كون الموالين للسلطة السابقة يخدمون الحكومة الجديدة تنطوي في حد ذاتها على شرعية.
وربما يستلزم الكلام عن ذكرى 45 عامًا على "انقلاب 77" وذكرى 55 عامًا على احتلال 67، محاولة التركيز على ماهية ذلك "اليسار" الذي يحذّر اليمين الإسرائيلي الجديد المُنقلب على قديمه من مغبّة استمراره في تحريك خيوط السياسة الإسرائيلية الرسمية. وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الشأن أن الحكومات التي كانت برئاسة حزب العمل، سليل مباي، ظلت خلال العقد الذي تلا احتلال 1967 وصولًا إلى "انقلاب 1977"، إمّا تغض الطرف عن المستوطنات المتكاثرة في الأراضي الفلسطينية التي احتلت أو تشجع بصراحةٍ على إقامتها، وبذا ساعدت هذه الحكومات خلفاءها اليمينيين في شرعنة أيديولوجيا الاستيطان. وعلى الرغم من ذلك، كانت مسيرة هذا "اليسار" أقرب إلى مسار الأفول ومن ثم الانهيار، لأن أغلب الرأي العام في إسرائيل يمينيّ في أساسه، فضلًا عن مبلغ تغلغل فكرة "الشعب اليهودي المختار" الذي "لا تنطبق عليه القواعد الإنسانية العامة"!