أيّ دور لطالبان؟
تحوّلات سريعة تشهدها الساحة الأفغانية على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه، وتحديداً الولايات المتحدة التي رفعت مسؤوليتها عن متابعة الأوضاع في البلاد، عمدت إلى ما يشبه المهادنة مع حركة طالبان، راعية إلى حد ما تمدّدها في الأراضي الأفغانية واقترابها من كابول للسيطرة على الحكم في أفغانستان، وهو ما بات مسألة وقتٍ لا أكثر. أصبح من الواضح أن أفغانستان في طريقها للعودة إلى ما قبل عام 2001، تاريخ الغزو الأميركي للبلاد، وأن عشرين عاماً من السيطرة الأميركية لم تفلح في إخراج البلاد إلى رحاب "الديمقراطية"، الذريعة التي على أساسها أطلق جورج بوش الابن حملاته العسكرية في المنطقة.
بعد عشرين عاماً من هذا الاحتلال، ومع تبدّل الإدارات الأميركية، وصلت واشنطن حالياً، في ظل إدارة جو بايدن، إلى قناعة بأن الحمل الأفغاني بات ثقيلاً، وأن لا استفادة مباشرة، لا سياسياً ولا عسكرياً، من الوجود الأميركي في البلاد، بل مجرّد استنزافٍ للمقدّرات المالية واللوجستية. كذلك مثّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان اعترافاً صريحاً بفشل محاولات تشكيل حليف قوي على الأرض، يحمي المصالح الأميركية في المنطقة الآسيوية، ويشكّل ذراعاً تستطيع واشنطن استغلالها في صراعاتها مع المحيط، بل على العكس، تحوّلت القوى العسكرية الحكومية، إضافة إلى الأطراف السياسية، إلى عبءٍ على الإدارات الأميركية، بات لزاماً التخلص منه، والبحث عن حليف آخر.
ليس هذا الواقع جديداً على الساحة الأفغانية، ولا بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة، غير أن تحوّلاً حقيقياً حصل في توجهات واشنطن مع وصول جو بايدن إلى الرئاسة. تحوّل في الأولويات الاستراتيجية بالنسبة إلى أعداء الولايات المتحدة، دفع هذه الإدارة إلى محاولة إيجاد حلفاء، أو على الأقل أدوات، قادرة على خدمة المصالح الأميركية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن الواضح اليوم أن الإدارة الأميركية ترى في "طالبان" إحدى هذه الأدوات، وهي لا تمانع، بل بالأحرى تشجّع، عودتها إلى ساحة الحكم في أفغانستان. فكما هو واضح اليوم، لا تحرّك الإدارة الأميركية، ولا قوات حلف شمال الأطلسي الموجودة في أفغانستان، ساكناً أمام تقدّم حركة طالبان وتضييقها الخناق على العاصمة كابول، بل إن التصريحات الصادرة عن الطرفين، الأميركي والأطلسي، توحي بالتسليم بالأمر الواقع، والتخلي عن الحكومة الأفغانية، فالمتحدّث باسم قوات حلف شمال الأطلسي استعمل تعبير "قدر الإمكان" في حديثه عن دعم الحكومة الأفغانية، ما يعني عملياً الجلوس في مقعد المتفرّجين على سقوط هذه الحكومة التي كانت تتغنّى الإدارات الغربية بـ"ديمقراطيتها".
هذا الانسحاب الأميركي، والأطلسي، ليس بريئاً بالتأكيد، خصوصاً أن الطرفين يدركان مآلات تجربة حكم "طالبان"، وما أنتجته من تصعيد لتنظيم القاعدة، وما أوصل إليه لاحقاً منذ ما قبل "11 سبتمبر" وما بعده. غير أنه يبدو أن هناك دوراً مرسوماً للحركة في الاستراتيجية الخارجية الأميركية، وتعديل أولويات الأعداء، فالإدارة الأميركية اليوم تضع الصين في رأس التحدّيات التي عليها مواجهتها، وهي ستعمل على استغلال النقمة الإسلامية على بكين، في ما يخصّ ملف الإيغور لاستنزاف الصين بطريقة ما عبر تطويقها بنظام حكم إسلامي جديد.
من غير الواضح كيف سيكون هذا التوظيف، لكنه، بلا شك، سيكون مستوحىً من تجارب الثمانينيات، حين استُغل من سمّوا حينها "المجاهدين" لمواجهة الاتحاد السوفييتي. من الطبيعي أن الطريقة لن تكون نفسها، خصوصاً في ظل عدم وجود احتلال صيني على الأرض الأفغانية، كما كان عليه الحال في ما يخصّ الاتحاد السوفييتي. ولكنّ من الواضح أيضاً أن إزعاج الصين مباشرة هو إحدى غايات تسليم أفغانستان إلى "طالبان"، الأمر الذي لم تُخفه بكين.
سقوط كامل أفغانستان في يد "طالبان" مسألة وقت لن يكون طويلاً، أما دور الحركة في الاستراتيجية الأميركية فهو أمر سيتضح لاحقاً، لكن ببطء.