أيُّ الجنراليْن يبتسم أخيراً؟
ليس من الحصافة المهنيّة أن ينكبّ أصحاب التعاليق في الصحافة على نشر توقّعاتهم (يسمّونها سيناريوهات غالبا) لنهايات حروبٍ شرسةٍ بعد ثلاثة أيامٍ من نشوبها. وقد توقّع بعضٌ منّا أن يتجوّل الرئيس بوتين في شوارع كييف بعد أسبوعين من أول ضربة مدفعيةٍ من جيش بلادِه على أراضي أوكرانيا، ثم تدحرجت الحربُ هناك إلى ما لم يتوقّعه أحد. ولذلك، لا يُورّطنّ (عذرا لهذه الفصحى الثقيلة) أحدٌ نفسَه بتوقّع نهاياتِ (أو مآلاتِ؟) الحرب الحادثة حاليا في السودان بين جيشٍ يُفترض أنه نظامي ومهني ومليشيا ذات عتادٍ وعديدٍ وفيريْن. وهذه عمليات إجلاء دولٍ عديدةٍ مواطنيها من هناك توفّر سببا للقول إن هذه الحرب تمضي إلى وتيرةٍ أكثرَ سخونةً، وأعرضَ ميدانيا في البلد الشاسع. وهذه جولات القتال في العاصمة الخرطوم وأم درمان، في محيطي القصر الرئاسي والقيادة العامة للقوات المسلحة وحواليْ المطار، تشتدّ وتخفُت، من دون أن يحسمها في ثمانية أيام أيٌّ من الطرفيْن المتحاربيْن، الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات التدخّل السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما ييسّر سببا للقول إن الأخيرة قد تنكفئ (اضطرارا أو استراتيجية؟)، لتكتفي بالقتال في الأقاليم، في جنوب كردفان ودارفور وغيرهما، وتُحدِث خسائرَ مشهودَةً في الجيش، وتحقّق انتصاراتٍ تسوّغ للجنرال دقلو أن يبتسم، عندما يزهو بها، ويفترض أنها أوراقُ تفاوضٍ في مراحل تالية، فيما للجنرال البرهان أن يبتسم لسيطرة الجيش ومُواليه على مرافق الخرطوم الحيوية وجسورها. وفي علوم العسكر التقليدية من يبسُط سلطتَه في العاصمة متفوّقٌ بالضرورة على خصمٍ له يظفَر بأيِّ سلطةٍ في خارجها.
هذان احتمالان، تُجيز قراءاتٌ أولى للموقف العسكري الراهن في الخرطوم ومروي ودارفور (وغيرها)، أن يكونا متوقَّعيْن، وأن يأتي عليهما زملاءُ معلّقون سيناريوهيْن قريبيْن منظوريْن. ومع تفهّم أمرٍ كهذا، يجوز الاجتهاد (أو التفلسف؟) هنا، في القول إنهما متوقّعان من باب المنطق (الأرسطي أو غيره)، يسوق إليهما تحليلُ الناظر في شاشات الهواء المباشر، وفي متابعة أنباءٍ متسارعةٍ (ومضجرةٍ ربما). وفي الأول والأخير، ليس المنطق وحدَه السكّة التي تسير عليها مجريات الحروب، سيّما مثل التي قدّامنا في السودان، والتي يخوضها جيشٌ مُتعبٌ يواجِه في المدن، وفي أحياء المدنيين، بالقذائف والصواريخ، قواتٍ مليشياويةً مرنة الحركة، لا تتمسّك بموقعٍ سيطرت عليه إن رأت التخلّي عنه بعد ساعاتٍ أنفعَ لها. يكذب قائدُها بصراحة، الجنرال دقلو، مبتمسا ربما، في زعمِه إن غرضه من حربه البرهان تسليم السلطة للمدنيين، وتخليص الجيش من متطرّفين إسلاميين يسيطرون عليه. ويشرح مستشارٌ سياسيٌّ للرجل، في تصريح لتلفزيون "العربي"، إن "التدخّل السريع" لا تطرَح نفسها بديلا عن الجيش، وإنها تعمل على إنهاء دكتاتورية البرهان. ويحتاج واحدُنا إلى أن يتخلّى عن مخّه ليصدّق أقوالا كهذه. ويحتاج أيضا أن يُشهر اندهاشَه من ترديد معلقين وإعلاميين تخريفا ذائعا عن نفوذ متطرّفين إسلاميين على قرارات البرهان وقيادته، وأن هؤلاء هم من أشعلوا الحرب.
مؤدّى القول هنا إن صاحب هذه السطور إذ يرى الاصطفاف ضد مليشيا دقلو ضرورةً، ويرى إنهاء وجودِها من لوازم ملحّة لإنقاذ دولةٍ مهترئة، السلاح فيها فالِت، ويجد أن من أشدّ لزوم ما يلزم الحفاظ على الجيش السوداني، وإنْ ظلّ جيش أنظمةٍ تعاقبت على البلاد والعباد أكثر منه جيشا نظاميا، وأيا كانت الأعطابُ فيه، وأيا كانت المؤاخذات المؤكّدة والثقيلة على البرهان، وهي كثيرة. ولكن هذا الموقف المدعوّ إليه هنا، من دون مراوغةٍ أو تلعثم، لا تنبني عليه رغائبيةٌ تأخذُ تقدير الموقف، ميدانيا وعسكريا، إلى أن حسما مؤكّدا للجيش سيتحقّق، بالنظر إلى تفاصيل تتعلّق ببنيته وإمكاناته، في المعارك مع مليشيا دقلو، فهذا واردٌ وغير واردٍ في آن. من الأدعى الانصراف عن الحديث، إعلاميا، فيه، فليس سؤالا، أيُّ الجنراليْن، البرهان أو حميدتي، يبتسم أخيرا، عندما تنتهي الحرب بعد أسبوع أو بعد سنوات. وإنما الأسئلة: أيُّ سودانٍ سنرى، لو كسَر حميدتي شوكة الجيش أو سُمعتَه؟ لو انطرَد هذا الرجل والمحاربون معه من الخرطوم، ثم خاضوا معارك استنزافٍ إلى أمدٍ غير منظور؟ لو ابتسم الجنرال البرهان، وظلّ السودانيون في دوّامة احترابٍ ومتاهاتٍ سياسيةٍ وتآكلٍ للدولة واهتراءٍ في المجال العام إلى ما شاء الله؟