أوكرانيا ومولدوفا والتاريخ .. الشّطرنج المرن لدى بوتين
باحث مغربي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، من أحدث مؤلفاته بالإنجليزية "ماهو التنوير: استمرارية أم قطيعة في أعقاب الانتفاضات العربية".
أضفت أحداث مولدوفا تعقيداتٍ جديدةً على استراتيجية الكرملين، والغاية من الحرب الرّوسية على أوكرانيا، التي دخلت شهرها الثالث من دون مؤشراتٍ عمليةٍ لوساطة دبلوماسية لتسويتها. وتتوالى دعوات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى وقف إطلاق النار قبل اجتماعه مع الرئيس بوتين في الكرملين وبعده. وقد توافقت الولايات المتحدة وأربعون دولة حليفة، في اجتماع استضافته القاعدة الجوية الأميركية في رامشتاين في ألمانيا في أواخر الشهر الماضي (أبريل/ نيسان)، على تعزيز القدرات القتالية للقوات الأوكرانية، وعقد اجتماعات شهرية لمجموعة الاتصال. في المقابل، توعّد الرئيس بوتين بالرد "الصاعق" على من يتدخّل في أوكرانيا. وتحاول روسيا فتح جبهة جديدة ضد أوكرانيا من مولدوفا، وهي دولة سوفيتية سابقة، لا يتجاوز عدد جنودها 3250 رجلا، بالنظر إلى "مؤشّرات" إلى هجوم في المستقبل القريب عليها.
تفيد المصادر العسكرية في أوكرانيا بأن الاستيلاء على مولدوفا سيؤدّي إلى انتقال القوات الروسية إلى ميناء أوديسا على البحر الأسود في أوكرانيا من الغرب، فأضحت الحرب الأوكرانية والمجابهة بين الكرملين والعواصم الغربية صراعا ممتدّا تُعرف بدايته، ويصعب توقّع نهايته أو مدى تحوّره في الأشهر المقبلة، بل يثير أسئلةً مهمةً بشأن دلالة الغزو الرُّوسي أوكرانيا في سيرورة السياسة الدولية ضمن تنافس الأقطاب الكبرى؟ وهل ترقى هذه اللحظة في ربيع 2022 إلى مصافّ اللّحظات المفصلية في التّاريخ، بموازاة انهيار جدار برلين مثلا، أو الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ وهل مفهوم "عودة الحرب الباردة"، إنْ كانت قد غابت أم لا حقيقة في الأعوام الثلاثين الماضية ومجاراة عبارات مألوفة منذ منتصف القرن الماضي هو أفضلُ ما يمكن أن ينتجه العقل الاستراتيجي الرّاهن؟
وقد ارتفع مستوى التوقعات في العواصم الغربية خلال شهر أبريل/ نيسان بشأن احتمال مفاجآت جديدة، ومدى توظيف الرئيس بوتين الاحتفال السنوي المقرّر ليوم النّصر (9 مايو/ أيار) في الذكرى السابعة والسبعين لانتصار الاتحاد السوفيتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وحاول الكرملين أن يضفي على المناسبة رمزية قومية وخطابية تاريخية، بتنظيم مسيرات في 28 مدينة روسية شارك فيها 65000 شخصا و2400 قطعة من المعدّات العسكرية وأكثر من 400 طائرة. وشدّد بوتين، في خطابه الحماسي خلال الاستعراض العسكري في السّاحة الحمراء في موسكو، على أن التدخّل الرّوسي في أوكرانيا كان ضروريًا، لأن الغرب "كان يستعدّ لغزو أراضينا بما فيها شبه جزيرة القرم".
وقد شدّد بوتين على أن روسيا كانت دائما تدعو إلى حوار نزيه، وإلى أمنٍ متساوٍ وغير قابلٍ للتجزئة للجميع. لكن عبثا، فإن "دول حلف شمال الأطلسي لم ترغب في سماعنا"، إذ لديهم "خطط مختلفة تماما"، وكانت هناك استعداداتٌ لشنّ هجوم على دونباس وشبه جزيرة القرم. وأضاف إنّ الدفاع عن الوطن الأم عندما يجري تقرير مصيره "كان دائمًا أمرًا مقدّسًا. واليوم، أنتم تقاتلون من أجل شعبنا في دونباس، من أجل أمن روسيا وطننا". ومن بين ردود الفعل الأولية على خطاب الرئيس بوتين تصريح وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، إن بوتين أطلق "مزاعم خيالية" لتبرير الغزو، واتهمه وجنرالاته بارتكاب "جرائم حرب". وقال ميخايلو بودولياك كبير مستشاري الرئيس الأوكراني إن "دول حلف شمال الأطلسي لن تهاجم روسيا. وأوكرانيا لم تخطط لمهاجمة القرم".
مولدوفا .. نسجٌ على منوال أوكرانيا؟
لم يأت خطاب الرئيس بوتين في الاستعراض العسكري بجديد ملموس على مستوى استراتيجيته إزاء دول الحلف، لكن الأحداث أخيرا في مولدوفا، فضلا عن أوكرانيا، تزيد في تعقيد هذه اللحظة في ربيع 2022 التي ترقى إلى مصافّ اللّحظات المفصلية في التّاريخ، بموازاة انهيار جدار برلين، أو الحربين العالميتين، الأولى والثانية. وتتزايد المخاوف من تحرّكات الكرملين في الدول المجاورة لأوكرانيا، ومنها مولودوفا ورومانيا وبولندا، وحتى فنلندا والسويد اللتين تنظران في مدى الحاجة لطلب عضويتهما في حلف شمال الأطلسي. وثمّة تحوّل ملموس في القراءات الغربية التي غدت، بين شهريْ فبراير/ شباط ومايو/ أيار، تتبنّى تفسيرات أكثر واقعية لاستراتيجية الكرملين، بعد أن وضع المعدّات النووية في حالة تأهب.
تتزايد المخاوف من تحرّكات الكرملين في الدول المجاورة لأوكرانيا، ومنها مولودافيا ورومانيا وبولندا، وحتى فنلندا والسويد
تكتب المحللة في "وول ستريت جورنال"، بيجي نونان، في افتتاحية بعنوان "قد يكسر بوتين حقا الطابو النووي"، نشرتها قبل أيام "لسنا قلقين بما يكفي بشأن الاستخدام النووي الروسي جزئيًا لأننا نتخيل شيئًا مثل صواريخ ضخمة برؤوس حربية ضخمة، تُطلق من قارّة أخرى، وتتسارع عبر الفضاء. نعتقد أن هذا لن يحدُث، ولم يحدث أبدا! لكن الاستخدام الأكثر احتمالا أنه لن يجري استخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية الكبيرة، ولكن الأسلحة التكتيكية الأصغر في ساحة المعركة". هكذا تزداد أهمية الإجراءات الروسية في مولدوفا التي تُحادي حدودا بأوكرانيا، وأضحت في وضع حرج بما يحدث في إقليم ترانسنيستريا الذي يمثل برميل بارود محتمل في منطقة الشرق، حيث يسيطر الانفصاليون الموالون للكرملين بمساعدة حوالي 1500 جندي روسي. وظلت المنطقة المتنازع عليها من دون تغيير تقريبًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، واستمرار تبنّيها شعار "المطرقة والمنجل"، وإنْ اتّبَع الكرملين تحت قيادة بوتين سياسة ليبرالية أفضت إلى تعزيز نفوذ الأوليغارشيين وانتعاش القومية الروسية. وتقول موسكو إن قواتها ما زالت تحافظ على السلام في الشريط الضيق على طول نهر دنيستر. لكن المسؤولين في العاصمة كيشيناو يتهمونها باحتلال المنطقة بشكل غير قانوني. ويطالب المجتمع الدولي بمغادرة القوات الروسية أراضي مولدوفا. ولكن، لم يتزحزح أحد من الطرفين عن موقفه.
يقول سفير مولدوفا في الولايات المتحدة سابقا ورئيس معهد التنمية والمبادرات الاجتماعية في كيشيناو، إيغور مونتينو، إنّ "ما بدأ بمثابة مصدر قلق يتحوّل بسرعة إلى حالة ذعر". ويضيف إنه يقرأ في تصريحات الروس أن "مولدوفا مستهدفة، وقد تكون هناك خطط للغزو من ترانسنيستريا. وتتسع حالة الانقسام بين المجتمع المولدوفي بشأن ما ينبغي فعله بعد تنبيه أوكرانيا لنا بأننا المستهدفون في المرحلة المقبلة، بينما يُصرّ قادتنا على أنه من الأفضل استرضاء موسكو بالبقاء خارج دائرة الحرب". وقد قاومت حكومة مولدوفا الدعوات إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحلفاء الغربيين لفرض عقوبات على روسيا وشحن أسلحة إلى أوكرانيا، وتتمسّك بالتزامها الدستوري بالحياد. وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث CBS-AXA في أبريل/ نيسان الماضي أن 46% من سكان مولدوفا يعتبرون الغزو الروسي "هجوما غير مبرّر"، فيما يؤيد 18% منهم حجة الكرملين بأنه "تحرير البلاد من النازية". ويحمل أكثر من مليون مالدوفي، من أصل مجموع السكان البالغ عددهم 2.6 مليون نسمة، جوزات سفر الاتحاد الأوروبي.
معضلة الحرب غير المتوازية
تميل جل التفسيرات المتداولة للحرب الرّوسية على أوكرانيا وتبعاتها في مولدوفا إلى تبنّي تركة الحرب الباردة في استيعاب تعقيدات الحرب وأحداثها اليومية ومآلها في المستقبل. لكن، ينبغي ألاّ يغرق المرء في التفاصيل اليومية بقدر ما يتمسّك بالمرامي أو الغايات التي يستهدفها الكرملين من خلال المغامرة في أوكرانيا، بل والقيام بعمليةٍ ذهنيةٍ في التحليل والاستشراف تقوم على ثلاث خطوات متوالية: السياق والديناميات والمآل. أي استحضار أحداثِ الماضي وتاريخِ الصراع وأسبابِه الجذرية، ثم الديناميات والتفاعلات الاستراتيجية والمناورات التي يقوم بها كل طرفٍ من الكرملين، إلى حكومة زيلينسكي في كييف، إلى مقر حلف شمال الأطلسي، ومناقشات الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، إلى البيت الأبيض، ومجلس الأمن والجمعية العامة في نيويورك.
في 17 من ديسمبر/ كانون الأول 2021، أعلنت حكومة فلاديمير بوتين قائمة مطالب أسمتها "الضمانات الأمنية"، ووجّهت اتهامات إلى الغرب بأنه قد "وسّع بقوة" الحلف رغم ما يعتبرها تأكيداتٍ تعود إلى عام 1990 بأنه لن يفعل ذلك. ونشر الكرملين أكثر من مائة كتيبة تكتيكية وقوة عسكرية بنحو 190 الف جندي بمثابة تمرين مثير يجمع بين شفافية الاستعراض وخداع المناورة على حدود أوكرانيا.
قاومت حكومة مولدافيا الدعوات إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحلفاء الغربيين لفرض عقوبات على روسيا وشحن أسلحة إلى أوكرانيا، وتتمسّك بالتزامها الدستوري بالحياد
في 28 من فبراير/ شباط الماضي، جرى تسريب وثيقة تشمل خطة بوتين نشرتها وكالة ريا نوفوستي RIA Novosti مصادفة، وتقضي بالسّيطرة على كييف في غضون يومين فقط، ثم إعلان بدء نظام عالمي جديد في 26 فبراير/ شباط. وكان من المفترض أن يؤدّي الاستيلاء السّريع على أوكرانيا إلى وضع الغرب أمام الأمر الواقع، مثل ما حدث في بيلاروسيا وكازاخستان وجزيرة القرم، وبالتالي فرض سياسة خارجية روسية جديدة أكثر قوةً عما سبق. ويكون بوتين بذلك قد أنهى الهيمنة الغربية العالمية، وألغى شروطها. هذا بعضُ ما كان يدور في العقل الاستراتيجي لبوتين خلال الاستعداد لغزو أوكرانيا.
موقف بوتين
عشية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 من فبراير/ شباط الماضي، ألقى الرئيس بوتين خطابا يمكن اعتباره أحد أهمّ خطابين ألقاهما في حياته السياسية، إلى جانب خطابه المثير في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، فشدّد على أن "المعاهدات والاتفاقيات السابقة لم تعد سارية المفعول. ولم تساعد محاولات الإقناع وتكرار تقديم الطلبات. وكل ما لا يناسب الأطراف التي تسعى إلى الهيمنة يُعلن أنه عفا عليه الزمن ولم يعد ضرورياً. والعكس صحيح: يتم تقديم كل ما يبدو مفيداً لهم على أنّه الحقيقة المطلقة". وأضاف بوتين عما يمثّل محور مناورته إزاء الغرب: "ما أتحدّث عنه الآن لا يتعلق بروسيا فحسب، بل ينطبق على نظام العلاقات الدولية بالكامل، وأحياناً على حلفاء الولايات المتحدّة أنفسهم. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت إعادة تقسيم العالم بالفعل، وتم اعتماد قواعد القانون الدولي التي تطورت بحلول ذلك والقواعد الأساسية عند نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت تتداخل مع سياسات أولئك الذين أعلنوا أنفسهم منتصرين في الحرب الباردة".
تنمّ هذه العبارة في خطاب بوتين عن محاولة تصحيح التّاريخ وترميم ما يعتبره خلَلًا ينال من استقرار العلاقات الدولية، وهي تعيد صدى ما دار بينه وماكرون على بعد ستة أمتار من بعضهما بعضا في الكرملين يوم العاشر من فبراير/ شباط. وقال إثنان من مرافقي ماكرون إن بوتين قدم له محاضرة في "مراجعة التاريخ" خمس ساعات، وأن الغرب لم يف بالتزاماته تجاه روسيا منذ 1997، بل وسّع الحلف ليشمل دول الكتلة السوفيتية السابقة. لم تَضعف عزيمةُ بوتين أيضا في عقد محاكمة أخلاقية وقانونية للغرب، فلوّح بما يعتبره "انطباعا سائدا في العديد من مناطق العالم، حيث يأتي الغرب ليقيم نظاماً خاصاً به، تكون النتيجة جروحاً دموية غير ملتئمة، وتقرّحات للإرهاب الدولي والتطرف. كلُّ ما قلتُه فظيع، لكنه ليس بأي حال من الأحوال الأمثلة الوحيدة على تجاهل القانون الدولي. في هذه السلسلة، هناك وعودٌ قدّموها إلى بلدنا بعدم توسيع الحلف ولو شبراً واحداً إلى الشرق. أكرّر - لقد خدعونا. غالباً ما يسمع المرء أن السياسة عمل قذر. ربما، ولكن ليس بهذا القدر. ولا يتعارض سلوك الغش هذا مع مبادئ العلاقات الدولية فحسب، بل يتعارض قبل كل شيء مع معايير الأخلاق المعترف بها عموماً".
عمد بوتين أيضا إلى إدراج توليفة ذكية بنَفَسٍ ميكيافيلي، من أجل تبرير استخدام القوة وتكريس السياسة وتحدّي الغرب، وحاول أن يجمع المجد من طرفيْه، بتغليف نزعته لاستخدام القوة وبقية منطلقات الواقعية السياسية بوشاء ناعم من قيم مناهضة الكذب السياسي والعدل وبقية المبنيات السياسية political constructs في مدرسة الفكر المثالي. فقال: "هناك حاجة دائماً للقوة، ولكن يمكن أن تكون القوة ذات جودة مختلفة. إن سياسة "إمبراطورية الأكاذيب"، التي تحدّثتُ عنها في بداية حديثي، تقوم أساساً على القوّة الغاشمة والمباشرة. وفي مثل هذه الحالات، نقول: "هناك قوة، لا حاجة للعقل". أنا وأنت نعلم أن القوة الحقيقية تكمن في العدل والحقيقة اللذين هما إلى جانبنا. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الصعب الاختلاف مع حقيقة أن القوة والاستعداد للقتال هو الأساس الذي يقوم عليه الاستقلال والسيادة، وهما الأساس الضروري الذي يمكنك من خلاله بناء مستقبلك بشكل موثوق، وبناء منزلك وعائلتك ووطنك". وختم خطابه بعبارةٍ تنطوي على توظيف القومية والهوية الجماعية، قائلا "أنا أؤمن بدعمكم، بهذه القوة التي لا تقهر التي يمنحنا إياها حبنا للوطن".
لا يمكن للمرء أن يتجاهل مستوى التوظيف الأيدولوجي في ثنايا خطاب بوتين، وهو يحشُد الهمم لحمل السلاح
لا يمكن للمرء أن يتجاهل مستوى التوظيف الأيدولوجي في ثنايا خطاب بوتين، وهو يحشُد الهمم لحمل السلاح لا لصدّ غارة أو إيقاف هجوم على أراضي روسيا، بل لنفخ معنويات جنوده في غزو بلد مجاور خارج من عباءة روسيا منذ ثلاثة عقود. وتكرّرت المحادثات بينه وبين ماكرون أكثر من مرة، من دون تحقيق اختراق دبلوماسي. فأضحى ماكرون مقتنعًا بأن "الأسوأ لم يأت بعد"، وأن بوتين يهدف إلى السيطرة على أوكرانيا بأكملها. وقد عزّز أسلوب تعامل ماكرون مع الكرملين والحرب في أوكرانيا في رفع رصيده السياسي في انتخابات الرئاسة الفرنسية. في مقالة تحليلية بعنوان An Age of Existential Uncertainty "عصر من عدم اليقين الوجودي" يكتب تشارلز بلو، في "نيويورك تايمز"، إن "بوتين لا يريد الفوز في حرب أو السيطرة على منطقة فحسب، بل يريد أن يؤكّد نقطة معينة أنه يكون بمثابة الأجنحة التي تحلّق بها روسيا من جديد. ومما يزيد في نزعة العدوانية لديه أنفتُه وغروره الشخصي. ولهذا يصعب تخيله يقبل الخسارة في أوكرانيا، بل لن يؤدّي أي شكل من الانتصار إلا إلى زيادة شهيته. فلماذا سيتوقف عند السيطرة على أوكرانيا أو جزء منها؟.
في المقابل، يحضر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى أنطاليا واسطنبول، ويستقبل وفد جامعة الدول العربية في موسكو، ويظهر في كل المنصات الممكنة لتكريس الانطباع إن الكرملين مندمج في الجهود الدبلوماسية، وهذا حقٌّ أريد به باطل. ولافروف يبني مناورته الدبلوماسية من حيث انتهى بوتين. فخلال أول لقاء له مع نظيره الصيني، وانغ يي، أخيرا، في مدينة هوانغشان بعد اندلاع حرب أوكرانيا، تحدّث بمنطق من يهندس مسودة نظام عالمي جديد، قائلا إن العالم "يعيش مرحلة خطيرة للغاية في تاريخ العلاقات الدولية. ونحن معكم (يقصد الصينيين) ومع المتعاطفين معنا سنتحرّك نحو نظام عالمي متعدّد الأقطاب وعادل وديمقراطي". لكن المسؤولين الصينيين يتمسّكون بأن بكين وموسكو تواصلان جهودهما من أجل "تعزيز التعددية القطبية العالمية وإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية"، وأن "التعاون الصيني الروسي ليس له حدود". وذكّرالجانب الصيني بالعبارة التي استخدمها الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ في وصف العلاقات الثنائية بأنّ "سعيهما من أجل السلام لا حدود له، ولا حدود لدعمنا للأمن، ولا حدود لمعارضتنا للهيمنة".
موقف بايدن
طلب الرئيس بادين أعضاء الكونغرس إقرار ميزانية ثلاثين مليار دولار لاحتواء روسيا سيجري إنفاق عشرين مليار منها لتسليح أوكرانيا. في المقابل، قرّرت موسكو تجميد حوارها بشأن الاستقرار الاستراتيجي مع واشنطن رسميا. وقال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لاڤروڤ، إن موسكو "لا تعتبر نفسها في حالة حرب مع حلف شمال الأطلسي، لكن الحلف يفعل ذلك"، وأن على الولايات المتحدة ودول الحلف الأخرى "التوقف عن ضخّ الأسلحة على أوكرانيا إذا سعيا بالفعل لإنهاء الصراع، لكنهما يبذلان الآن كل ما في وسعهما لإطالة أمده". وأضاف إن على مولدوفا أن "تقلق بشأن مستقبلها لأنه يتم جرّها إلى الحلف".
ندّد الرئيس بايدن في البيت الأبيض يوم الغزو الروسي لأوكرانيا، بما اعتبره "هجوما مع سبق الإصرار". وقال إن "بوتين ظل يخطط له منذ شهور، وأنه نشر أكثر من 175000 جندي ومعدّات عسكرية إلى مواقع على طول الحدود الأوكرانية، وأيضا إمدادات الدم، وشيّد مستشفى ميدانيًا مما ينبئ بكل ما تحتاج لمعرفته حول نواياه طوال الوقت. لقد رفض كل الجهود بحسن النية التي بذلتها الولايات المتحدة وحلفاؤنا وشركاؤنا بشأن مخاوفنا الأمنية المتبادلة من خلال الحوار وتجنب الصراع غير الضروري وتجنب المعاناة الإنسانية."
ولكن، لم يخض بايدن في طبيعة الردّ العسكري الذي اعتقد كثيرون أنّه قيد التحضير، بقدر ما دفع بلغة العقوبات، وأهمية قيام تحالف دولي ضد روسيا. وشدّد على أن الغرب صمّم تلك العقوبات عن قصد لتعميق التأثير طويل المدى على روسيا، وتقليل التأثير على الولايات المتحدة وحلفائها، وأن "الولايات المتحدة لا تفعل ذلك بمفردها. كنا لعدة أشهر نبني تحالفًا من الشركاء الدين يمثلون أكثر من نصف الاقتصاد العالمي. سبعة وعشرون عضوًا في الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم فرنسا وألمانيا وإيطاليا - وكذلك المملكة المتحدة وكندا واليابان وأستراليا ونيوزيلندا ودول أخرى عديدة - لتضخيم التأثير المشترك لردن على روسيا".
حوّل بايدن الأنظار من المعارك الناشبة في أوكرانيا إلى أن "الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من أراضي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بقوة أميركية كاملة"
حوّل بايدن الأنظار من المعارك الناشبة في أوكرانيا إلى أن "الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من أراضي الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي بقوة أميركية كاملة". وقال إنّ "الخبر السار هو أن الحلف أكثر اتحادًا وتصميمًا من أي وقت مضى". وبعد مرور أكثر من شهر، قال بايدن خلال زيارة القلعة الملكية في وارسو إن الحرب في أوكرانيا أصبحت "فشلا إستراتيجيا لروسيا"، وإن سياسة الكرملين "خنقت الديمقراطية وسعت إلى القيام بذلك أيضا في أماكن أخرى". واعتبر المقاومة الأوكرانية جزءا من "معركة عظيمة من أجل الحرية"، فيما دعا العالم إلى الاستعداد "لمعركة طويلة". ووجّه حديثه إلى الشعب الروسي، قائلا "أرفض تصديق فكرة أنكم تقبلون قتل أطفال وأجداد أبرياء أو أنكم تقبلون قصفا روسيا للمستشفيات والمدارس".
وأعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، في مقابلة مع صحيفة التلغراف البريطانية أن القادة العسكريين للحلف ينكبّون على وضع خطط لتحويل وجود الحلف إلى قوة قادرة على حدوده الشرقية تكون قادرة على مواجهة جيش غازٍ محتمل. ووصف وجودَ الحلف في شرق أوروبا بأنه مجرّد قوة صغيرة نسبيًا تهدف إلى التدليل الرمزي على التزام الحلف بالدفاع عن نفسه ضد أي هجوم روسي محتمل. بيد أن حرب روسيا ضد أوكرانيا ستغير ذلك. وقال إنه "بغضّ النظر عن موعد وكيفية انتهاء الحرب، فقد خلّفت فعليا عواقب طويلة المدى على أمننا. ويحتاج حلف لأن يتكيف مع هذا الواقع الجديد، وهذا بالضبط ما نقوم به حاليا".
موقف الصين
الضّلع الثالث في هذه اللحظة المفصلية بين أقطاب الاستراتيجية الدولية حساب الصين التي تواصل انتقاد الغرب، لإثارة هذا الصراع مع الالتزام بشكل عام بالعقوبات، وتقديم مواد ودعم محدود لروسيا، كما تلاحظ ماريا ريبنيكوفا، وهي مختصة في السياسة الصينية في جامعة ولاية جورجيا الأميركية. وتضيف إن الصين تواصل، من الناحية الأيديولوجية، الدعوة إلى التشكيك في الهيمنة الغربية (وخصوصا الأميركية) وتقليلها. ومن أجل مواجهة الولايات المتحدة على المدى الطويل، من المرجّح أن تتجنّب الصين المواجهة المباشرة والعزلة".
يقول المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، وانغ وينبين، إنه "لا يوجد سقف للتعاون بين الصين وروسيا، ولا سقف لنا للسعي من أجل السلام، ولا سقف لنا لحماية الأمن، ولا سقف لنا لمعارضة الهيمنة". وشدّد على أن موقف الصين يقوم على أن "الحوار والتفاوض هو السبيل الوحيد الصحيح لحل الأزمة الأوكرانية". وحذر من "صبّ الزيت على النار" (عبارة كثيرا ما يستخدمها المسؤولون الصينيون في انتقاد العقوبات الغربية). يكتب الباحث في معهد موسكو للعلاقات الدولية، إيغور دينيسوف، في مقالة نشرها في مجلة The Diplomat إنّه "على الرغم من العلاقات العسكرية المتنامية بين روسيا والصين باستمرار، فإنهما ليستا حليفتين. وقد يكون من المنطقي أن يجري التنسيق على مستوى عالٍ بشأن التحرّكات العسكرية الروسية المقبلة إذا كانت الصين، بطريقةٍ ما، تساهم في العملية جنبًا إلى جنب مع الجيش الروسي. ومن الواضح أن أي خيار من قبيل هذه العمليات المشتركة غير مطروح على الطاولة. ويحتفظ الطرفان اللذان يقدران ثقتهم المتبادلة ، بدرجة عالية من الاستقلال الاستراتيجي".
من أجل مواجهة الولايات المتحدة على المدى الطويل، من المرجّح أن تتجنّب الصين المواجهة المباشرة والعزلة"
الملاحظ أيضا أن التقارب بين بوتين وشي قبل الألعاب الأولمبية الشتوية وخلالها يجسّد عقيدة بريجنيف في ثوب جديد، وأعلنا، في البيان المشترك في 4 فبراير/ شباط الماضي، أن "العلاقات الجديدة بين روسيا والصين تتفوّق على التحالفات السياسية والعسكرية في حقبة الحرب الباردة. فلا حدود للصداقة بين الدولتين، ولا توجد مجالات "محظورة" للتعاون. . . " هذا إعلان واضح عن تحالف جديد يهدف إلى تجاوز الحرب الباردة، جزئيًا، عن طريق إنشاء شراكة تؤدّي إلى نتيجة مختلفة تمامًا هذه المرة". واضاف البيان إن "روسيا والصين تقفان ضد محاولات القوى الخارجية لتقويض الأمن والاستقرار في المناطق المتاخمة المشتركة بينهما، وتعتزمان مواجهة تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة تحت أي ذريعة، وتعارض الثورات بشعارات الألوان، وستزيدان في مستوى التعاون في عدة مجالات".
قبل عامين، قال المؤرخ البريطاني والأستاذ في جامعة هارفارد، نيل فيرغسون، إنّ الصّين أحدُ اللاعبين الرئيسيين في الحرب الباردة، وأنّ قواها "اقتصادية وليست عسكرية"، فيما غدا دور روسيا "صغيرا جدًا". وضرب مقارنة بين الفترة الراهنة وفترة الخمسينيات، وتوصّل إلى أن الأدوار انعكست، وأن الصين هي الآن العملاق، وروسيا هي الصاحب الصغير متوسّط القوة. فرق آخر أيضا في نظر فيرغسون أن الصين في عهد شي لا تزال وفيةً لمذهب ماركس ولينين، فيما عادت روسيا تحت حكم بوتين إلى النزعة القيصرية". وخلص إلى القول إنّ هذه الحرب الباردة تختلف عن الحرب الباردة الأصلية، لأن الولايات المتحدة "متشابكة جدًا مع الصين" إلى الحدّ الذي يكون فيه "الانفصال" كما جادل الآخرون "وهمًا" ولأن "حلفاء أميركا التقليديين أقل حرصًا على ذلك. هم ينحازون لواشنطن وضد بكين"، وأن الحرب الباردة الجديدة "تحوّلت من التجارة إلى التكنولوجيا"، عندما وقعت كل من الولايات المتحدة والصين على الصيغة الاولى من الاتفاق التجاري بينهما.
هل يلتقي الخطان المتوازيان؟
كيف يمكن تشريح الحرب الرّوسية على أوكرانيا وخصائصها بين موجة التصعيد الراهن وخفض التصعيد المنشود من أوكرانيا ودول الغرب؟ هي صراعٌ غيرُ متواز على أكثر من مستوى. وينطوي عدم التوازي على بنيةٍ توجد في جل العلاقات السياسية والاجتماعية بين أطراف غير متساويين، وهو أيضا العلاقة بين الصغير والكبير، وبين الضعيف والقوي، وبين الفقير والثري. صراع أوكرانيا يُدار بأسلحة وأدوات غير متسقة مع بعضها بعضا: سلاح المقاتلة والمدفعية مقابل سلاح الاقتصاد السياسي وفي مقدمته العقوبات التجارية وفرض العزلة المالية على المصارف الروسية وحرمانها من استخدام نظام سويفت للتحويلات المالية، وتضييق الخناق ماليا على عدد من الأثرياء والمقربين من بوتين.
يتجسّد عدم التوازي أيضا في تحوّر المعارك من قصف جوي واجتياح برّي إلى حرب عصابات أو حرب مدن مفتوحة. وأظهرت التقارير الواردة من أوكرانيا، كما يقول أندي كيسلر Andy Kessler في "وول ستريت جورنال"، قصص استخدام صواريخ جافلين Javelin المضادّة للدبابات والمركبات الجوية التركية بايرقدار تي بي 2 Bayraktar TB2 من دون طيار التي تردّ على الدبابات والعربات المدرّعة الروسية. وأعلنت حكومة بايدن تخصيص 800 مليون دولار من الأسلحة الدفاعية لأوكرانيا، بما فيها Javelin وStinger المضادّة للطائرات وطائرات Switchblade من دون طيار. وثمّة مفارقة مثيرة، حسب رأي أندي كيسلر، أن المقاومة التي يقوم بها الأوكرانيون لا تكلف كثيرا، ولا يعني هذا أنه مجرّد استخدام زجاجات المولوتوف.
خطاب الحرب الباردة غير مجدٍ في تفسير التنافس الراهن
غير أنّ دراسة نشرها معهد الحرب الحديثة في كلية ويست بوينت الأميركية توصّلت إلى أنّ "حرب المدن غير متكافئة. ورغم ورود تقارير على نطاق واسع عن انقطاعات في سلسلة التوريد لما تحتاجه القوات، فإن لدى الروس أسلحة متفوقة مقارنة بالأوكرانيين، وجيشًا أكبر أيضًا (وإن كان من غير الواضح عدد الجنود الروس والأوكرانيين الذين يشاركون بنشاط في القتال الحالي). هذا ما يستميل معظم المحللين إلى استنتاج أن من غير المرجّح أن يهزم الأوكرانيون الروس في ساحة المعركة. وستتكيف حرب المدن مع هذا التوزيع غير المتكافئ للأسلحة والأفراد، ما يجعلها احتلالا مؤلمًا بشدة لقوة الاحتلال ذاته.
أمّا المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركية لشؤون أوروبا ورئيس قسم دراسات الدبلوماسية والأمن في مؤسسة راند، جيمس دوبينز، فيلاحظ أن التجربة تُظهر أن حروب المدن يمكن أن تستمر عقودا، وأن المساعدة الخارجية والملاذ المجاور غالبًا ما يكونان حاسميْن لنجاح المتمرّدين، ومن المرجّح أن تكون حكومات دول حلف شمال الأطلسي على استعداد لاستضافة حكومة أوكرانية في المنفى إذا أصبح ذلك ضروريًا. ويضيف جيمس دوبينز إن حملات مكافحة التمرّد يمكن أن تكون طويلة جدًا وتستهلك الكثير من القوى البشرية. ويذكر أن العقيدة العسكرية الأميركية ، على سبيل المثال، تعتدّ بمعدّل 50 من عمليات التمرد بين كل ألف نسمة، وأن تهدئة الأوضاع في أوكرانيا بالكامل قد تستدعي قوّة تصل إلى 800 ألف جندي وشرطي. وهذا العدد هو خمسة أضعاف العدد الذي نشرته روسيا في الوقت الحالي.
في ضوء ديناميات الحرب في أوكرانيا، وتعدّد الرؤى التحليلية بشأنها، يصبح خطاب الحرب الباردة غير مجدٍ في تفسير التنافس الراهن بين قطب شرقي يهندسه بوتين من خلال تحالف روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأيضا تركيب علاقات تعاون لا متناهية مع الصين. فقد نشرت وكالة ريا نوفوستي الروسية بالخطأ مقالة افتتاحية للمحلل الروسي يوتر أكوبوف في وصف المشروع الإمبراطوري الذي يتصوّره بوتين، قبل مسحه من الموقع في 26 فبراير/ شباط. وترجمته مؤسسة التجديد السياسي La Fondation pour l’innovation politique في باريس إلى الفرنسية بعنوان L’avènement de la Russie et du nouveau monde "صعود روسيا والعالم الجديد". يوضح أكوبوف كيف تجري عملية الترويس الكامل، بمعنى إضفاء السمات الروسية على أوكرانيا وبيلاروسيا كنقطة انطلاق لإعادة تشكيل النظام العالمي، ويقول "هنا يبدأ البعد الثاني للعصر الجديد، ويتعلّق بعلاقات روسيا مع الغرب، ليس علاقات روسيا وإنّما العالم الرّوسي أي علاقات الدول الثلاث: روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا نحو التعاون ككيان جيوسياسي واحد".
لدى بوتين وبعض من رجاله، قناعة بأحقية روسيا في الوصاية على جميع الدول التي خرجت من عباءة الحقبة السوفييتية
بعد أسبوع من الاجتياح الروسي أوكرانيا، توقعتُ أن أرض أوكرانيا ستكون مجرّد وعاء مرحلي للمجابهة المفتوحة بين الكرملين والغرب، وأن من الممكن نشر وجود عسكري روسي على الحدود الأوكرانية البولندية، على غرار الحشد العسكري الذي ظل لأشهر على الحدود الروسية الأوكرانية. وتجسّد أحداث مولدوفا فرضية استراتيجية قد يطبقها الكرملين في أي منطقة أخرى توجد فيها أقلية روسية أو موالون لموسكو، ولو في أرض المرّيخ. وتنطوي الزيارات المتكرّرة للمسؤولين الأميركيين (بلينكن، وهاريس، وبايدن وزوجته جين وخبراء البنتاغون) على مدى التهديد القائم لدولة سوفياتية التاريخ أوروبية الحاضر وغربية المستقبل. وهذا يعزّز استشرافا آخر، أنه طالما لم يستجب الغرب لمطالب بوتين، فإن الأخير سيواصل سياسة التدخل المتدرّج باسم الدفاع عن الأقليات الموالية لموسكو، بداية بأوكرانيا ومولدوفا، ولاحقا بولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاث وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة.
هي حرب مفتوحة من عدة معارك مباشرة وغير مباشرة. ومما سيزيد في أمدها لسنوات وليس مجرد أشهر ثلاثة أسباب:
1) عدم تقاطع السلاح العسكري الروسي مع سلاح الاقتصاد السياسي والعقوبات التي تفرضها الدول الغربية، أي أن سلاح المقاتلة والمدفعية لا يتقابل مع سلاح الاقتصاد السياسي وفي مقدّمته العقوبات التجارية وفرض العزلة المالية على المصارف الروسية وحرمانها من استخدام نظام سويفت للتحويلات المالية، وتضييق الخناق ماليا على أثرياء ومقرّبين من بوتين.
2) حرب أوكرانيا وما سيعقبها لن تؤدّي إلى معادلة صفرية عادية، أو رابح مقابل خاسر في الحرب الأوكرانية، بل تكرّس معادلة صفرية مطلقة في سلبيتها، لأنها تتجه نحو الاستنزاف المتبادل.
3) استمرار القناعة التاريخية والسياسية لدى بوتين وغيره في الكرملين بأن لروسيا الحق في الوصاية على جميع الدول التي خرجت من عباءة الحقبة السوفييتية، وهذا هو أساس النزعة نحو "مراجعة" التاريخية أو "تصحيح" التاريخ لدى الرئيس بوتين الذي حاضر عنها الرئيسَ الفرنسيَ ماكرون خمس ساعات في الكرملين.
باحث مغربي، أستاذ تسوية النزاعات الدولية وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، من أحدث مؤلفاته بالإنجليزية "ماهو التنوير: استمرارية أم قطيعة في أعقاب الانتفاضات العربية".