أهل العلم وأهل البوط
بمناسبة صورة الكون مترامي الأطراف التي وزّعتها وكالة ناسا، وامتلأت بها وسائل التواصل الاجتماعي، كنتُ، وأبناء جيلي الذين أدركنا الحكمُ العسكري مبكّراً، نتندّر على التفاهات التي تنتجها سلطة "البعث" المتخلفة. نحكي، مثلاً، أن طالباً سورياً أوفد إلى جامعة أوروبية، وبعد "طَحّ ونَحّ" في دراسة الفيزياء النووية، عاد إلى الوطن، ووضع نفسَه تحت تصرّف الحكومة، مرفقاً طلبَه بكومةٍ من الأوراق ذات التواقيع والأختام، فتكرّموا عليه وعينوه في "معمل مصياف لصناعة الأحذية".
من الأمور الشائعة في سورية أن ضباط الجيش العربي السوري، إذا أرادوا احتقار أحد حاملي الإجازات الجامعية الذين "يُسَاقون" لتأدية الخدمة العسكرية، ينادونه بلقب "أستاذ". وأما طالب الضابط المتطوّع، فيهتز طرباً حينما يُطريه رئيسُه بقوله: آه يا وحش! يمكننا أن نجنح قليلاً إلى الجِدّ، فنشير إلى أن اثنتين من الشخصيات التاريخية العالمية الكبيرة، محمد علي باشا (1769- 1849)، وجواهر لال نهرو (1889- 1964)، اعتمدا على العلم في بناء دولتيهما، مصر والهند. يروي عالم الجيولوجيا المصري، فاروق الباز، المولود سنة 1938، في مقابلةٍ تلفزيونية، أن أبناء الشعب الهندي كانوا يموتون بسبب الفقر والجوع، يومياً، بالمئات والألوف، وأن نهرو أوفد عدداً كبيراً من أبناء الهند إلى جامعات العالم، واستدعى مواطنيه الذين تخرّجوا من تلك الجامعات من قبل، وبدأ الجميع يعملون على تطوير زراعة المواد الغذائية، بأفضل الأساليب العلمية، حتى حقّقوا الاكتفاء، وبعدها انتقلوا إلى التصدير، فضلاً عما أنجزوه في مجال الصناعات الثقيلة، والصناعات المنزلية، والذّرة... وأما في سورية التي يستعمرها عسكر الأسد، فلا يُكتفى بتهميش المتعلمين وطردهم، بل إن الصورة التي وصلت إلينا من سجن تدمر الصحراوي تفيد بأن الغالبية العظمى من المعتقلين الشيوعيين والإسلاميين كانوا من حاملي الشهادات العليا، بينما يُنتقى السجّانون المكلَّفون إذلالهم من قليلي العلم وكارهيه.
لعل من حسن حظ فاروق الباز، العالِم ذي الألقاب العلمية والشهادات الكثيرة، الذي أُطلق اسمُه (Baz) على كويكبٍ اكتشف، أخيراً، بالقرب من المرّيخ، أن مصر لا يوجد فيها معمل حكومي لصناعة الأحذية، ولذلك صدر قرار من وزير التعليم العالي بتعيينه مدرّساً لمادة الكيمياء في بلدة السويس. ولهذا التعيين قصّة عجيبة، فقد فكّر فاروق في أن مَن يقع عليه ظلمٌ يستطيع أن يقابل الوزير، ويحكي له حكايته، والوزير، بدوره، يرفع عنه الظلم. قيل له إن الوزير يداوم من التاسعة صباحاً حتى الثالثة ظهراً، فصار يذهب إلى هناك، يومياً، على مدى ثلاثة أشهر، وينتظر، عسى أن يرقّ قلب الوزير له، فيقابله، والموظفون في السكرتاريا كانوا ينصحونه قائلين: "يا ابني، شوف حَدّ من معارف الوزير، وهات منه ورقة توصية، ووقتها هَـ يقابلك على طول". لكن فاروق، الشاب العائد من أميركا متسلحاً بشهادة علمية مهمة، لا يعرف أحداً من أصحاب أوراق التوصية، فاستمرّ يأتي، وصار الموظفون يستأنسون به، ويعطفون عليه، ويقدّمون له القهوة والشاي، إلى أن التقى، مصادفة، الدكتور مصطفى كمال طلبة الذي يعرفه من قبل، فرحّب به، وأخذه إلى مكتبه، وبعد أن فهم حكايته، نصحه بأن يلتحق بعمله في السويس، ثم يرجع إليه، وهو مستعدّ لأن يأخذه، حينئذ، لمقابلة الوزير.
في السويس، صادف صديقاً له حاصلاً على شهادة الفيزياء النووية من الاتحاد السوفييتي، وقد عيّنوه مدرساً لمادتين بسيطتين، الضوء والصورة. وعندما عرف قصته، قال له: "وقعوك في الفخ، يا فاروق. ده أنا بقى لي سنتين بدرّس هنا، وكلما أغيب يجي البوليس ويخبّطوا علي الباب ويجيبوني بالعافية. والله أنا بقيتْ خرقة بالية يا فاروق". وفي ضوء هذا التحذير، لم يلتحق فاروق بمدرسة السويس، سافر إلى أميركا، وصار هناك من أبرز أعضاء وكالة ناسا، مساهماً في التخطيط لأول رحلة أميركية إلى سطح القمر!