12 نوفمبر 2024
أهداف اتفاق هامبورغ الروسي الأميركي حول سورية.. وتداعياته
توصل الرئيسان؛ الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب، على هامش قمة دول الاقتصاديات العشرين الكبرى (G20) إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية، يشمل مناطق القتال في محافظتَيْ درعا والقنيطرة، ويبدأ تنفيذه يوم التاسع من تموز/ يوليو 2017. وجاء الاتفاق نتيجة مسارٍ تفاوضيٍّ بعيدٍ من الأضواء، جرى بين خبراء روس وأميركيين وأردنيين في العاصمة الأردنية عمّان، لم تكن إسرائيل بعيدةً منه، لوضع ترتيباتٍ أمنيةٍ تشمل جنوب سورية الغربي، تؤمن حدود الأردن وإسرائيل، وتمنع إيران من الاقتراب منها. وهذا هو هدف الاتفاق الرئيس بالنسبة إلى الدولتين.
ويعد هذا الاتفاق الأخير في سلسلة اتفاقاتٍ روسيةٍ أميركية، هدفها فرض وقف لإطلاق النار في سورية، أو في أجزاء منها، والسماح بدخول مساعدات إنسانية إلى مناطق القتال أو المناطق المحاصرة، كان أبرزها اتفاق 27 شباط/ فبراير 2016 (على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن) واتفاق 9 أيلول/ سبتمبر 2016 (في جنيف) اللذيْن وضع أسسهما وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي السابق جون كيري، فما الذي ينصّ عليه الاتفاق الجديد؟ وما أهدافه؟ وكيف يختلف عن غيره، وما فرص نجاحه؟
نص الاتفاق
بحسب وزير الخارجية الروسي؛ سيرغي لافروف، ومصادر أردنية وأميركية، ينص الاتفاق على وقف إطلاق النار على طول خطوط تماسّ يتم الاتفاق عليها بين النظام السوري والقوات المرتبطة به من جانب، وقوات المعارضة المسلحة من جانب آخر، على أن يكون ذلك خطوةً في اتجاه الوصول إلى خفضٍ دائمٍ للتصعيد في جنوب سورية، يُنهي الأعمال العدائية، ويسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى هذه المنطقة. كما ينص الاتفاق على إنشاء مركز مراقبة في العاصمة الأردنية، عمّان، وتُراقَب الهدنة عبر أقمار صناعية وطائرات من دون طيار. ولحفظ الأمن، تنشر روسيا عناصر من شرطتها العسكرية في المنطقة.
هدف الاتفاق
تمثل الهدف الرئيس للاتفاق الذي تم الإعلان عنه في هامبورغ (ألمانيا)، وعُدّ أبرز نتائج القمة الروسية- الأميركية الأولى بين ترامب وبوتين، في إبعاد إيران والمليشيات المرتبطة بها عن خط الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل. ولهذه الغاية، استضاف الأردن، منذ أيار/ مايو الماضي، محادثات روسية- أميركية على مستوى الخبراء، هدفها التوصل إلى اتفاقٍ يمنع وجود مجموعاتٍ تهدّد أمن الأردن؛ تكون مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو مليشيات تتبع إيران. وكانت ساحة الصراع في سورية شهدت، خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، سباقًا محمومًا على الأرض بين مختلف القوى المحلية وداعميها الإقليميين والدوليين، للسيطرة على أكبر قدر ممكن من المساحة الجغرافية السورية؛ لفرض وقائع سياسية وميدانية، تسبق انهيارًا محتملًا لتنظيم الدولة الإسلامية في مناطق سورية الشمالية والشرقية، أو تفرض وقائع على الأرض، قبل تسويةٍ سياسيةٍ ممكنة للصراع المستمر منذ نحو ستة أعوام. وتمثلت أبرز مظاهر الصراع في سعي إيران إلى إنشاء "كوريدور"، يربطها جغرافيًا بسورية عبر العراق، وصولًا إلى لبنان، من خلال السيطرة على الأراضي التي يخسرها "داعش" في غرب العراق وشرق سورية. وتأمين تموضع إيران على الحدود مع فلسطين المحتلة يسمح لها بنافذة تطل منها على الصراع العربي- الإسرائيلي، ويجعل منها لاعبًا لا غنى عنه في أي تسويةٍ مستقبليةٍ له. وقد اصطدم هذا المسعى الإيراني بمقاومةٍ أميركيةٍ، عُبِّر عنها في أكثر من مناسبة، حين قصفت طائراتٌ أميركيةٌ قوات موالية لإيران، كانت تحاول التقدم في اتجاه معبر التنف الإستراتيجي على الحدود السورية مع العراق والأردن، حيث تتمركز فصائل سورية معارضة مدعومة من واشنطن.
حاولت إسرائيل، من دون توقف، منع إيران من إنشاء وجود لها في مناطق جنوب سورية القريبة من حدودها، واستهدفت أكثر من مرة مراكز عمليات وخلايا تابعة لإيران في المنطقة، كان أبرزها الغارة التي وقعت في القنيطرة في شباط/ فبراير 2015، وسقطت فيها خلية تابعة لحزب الله، على رأسها جهاد مغنية، نجل القيادي في حزب الله عماد مغنية الذي اغتيل في دمشق مطلع عام 2008، كما استهدفت إسرائيل قادة آخرين في حزب الله، مثل سمير القنطار ومصطفى بدر الدين، كانوا، كما تدّعي إسرائيل، مسؤولين عن إنشاء وجود عسكري إيراني على حدودها الشمالية مع سورية.
وقد زادت وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية في العمق السوري خلال الشهور الأخيرة، ونالت مواقعَ مختلفةً مرتبطة بإيران، شملت محيط العاصمة دمشق ووسط البلاد وجنوبها؛ ففي 27 نيسان/ أبريل 2017، استهدفت الطائرات الإسرائيلية مستودع أسلحة لحزب الله اللبناني وخزانات وقود للطائرات في محيط مطار دمشق الدولي. وكانت تقارير إعلامية أفادت بأنّ أربع طائرات شحن؛ ثلاثٌ منها إيرانية والرابعة سورية، كانت قد وصلت إلى مطار دمشق من إيران قبل الضربة الإسرائيلية بنحو ساعتين. وفي 22 نيسان/ أبريل 2017، استهدفت طائرات إسرائيلية معسكرًا تابعًا "لقوات الدفاع الوطني"، وهي تنظيمٌ شبه عسكري تابع للنظام السوري في محافظة القنيطرة؛ ما أسفر عن مقتل ثلاثة أفراد. وفي 17 آذار/ مارس 2017 استهدفت طائراتٌ إسرائيليةٌ موقعًا قرب تدمر وسط سورية، يحتوي على صواريخ متطورة؛ ذكرت تقارير أنّها كانت معدّة لنقلها إلى حزب الله في لبنان. وقد مثّل تزايد وتيرة الهجمات الإسرائيلية على أهداف مرتبطة بإيران داخل الأراضي السورية مؤشرًا مهمًا على إصرار إسرائيل على منع أي وجود إيراني في مناطق قريبة من حدودها، أو تطوير قدرات عسكرية إيرانية قريبة منها، تمثل تهديدًا لها. وينطبق الأمر نفسه على الأردن الذي أخذ يحذّر، أخيرا، من أي محاولة إيرانية للاقتراب من حدوده الشمالية مع سورية.
تعثر "أستانة" وفشل مساعي السيطرة على درعا
مثل اتفاق هامبورغ ذروة الفشل في مساعي إيران إحكام سيطرتها على مناطق جنوب سورية، ومنذ الإعلان عن مناطق خفض التصعيد في اجتماع أستانة 4، الذي عقد مطلع شهر أيار/ مايو الماضي، ودخوله حيز التنفيذ في السادس من الشهر نفسه، وإيران تسابق الوقت لاستعادة السيطرة على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من مناطق جنوب سورية، عبر فرض "مصالحاتٍ" محلية، ومحاولة الوصول إلى الحدود السورية مع الأردن لإغلاقها، بغرض حصار المعارضة في درعا، ومنع سبل الإمداد عنها. لكن إيران لم تفشل عسكريًا فقط في تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف، قبل التوصل إلى اتفاقٍ لترسيم خطوط التماس في مناطق خفض التصعيد، بل فشلت مساعيها أيضًا خلال مؤتمر أستانة 5 الذي عقد في العاصمة الكازاخية يومَيْ 5 و6 يوليو/ تموز الجاري، في تأمين وجود عسكري لها على الأرض في المنطقة الجنوبية، بموجب اتفاق أستانة 4، بعدما رفضت روسيا التي كانت منخرطةً في محادثات بعيدة من الأضواء في عمّان مع الأميركيين الاستجابة للمطلب الإيراني، والذي جاء على شكل مسعىً لإعادة النظر في حدود التماس في منطقة خفض التصعيد في الجنوب، حيث تتولى الدول الأطراف في الاتفاق نشر قواتٍ لها في كل منطقة متّفقٍ عليها.
لم ينجح اجتماع أستانة أخيرا إلا في الاتفاق على ترسيم حدود المنطقتين الخاصتين بالغوطة الشرقية قرب دمشق ومنطقة شمال حمص، في حين فشل التوصل إلى اتفاق بين روسيا وتركيا حول حدود المنطقة الشمالية (إدلب وأجزاء من محافظات حماة وحلب واللاذقية)، وبين روسيا وإيران حول حدود المنطقة الجنوبية (أجزاء من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء). وكانت الدول الراعية لمسار أستانة اتفقت على إقامة مراكز مراقبة، بمشاركة روسية وتركية وإيرانية في شمال سورية وجنوبها ووسطها، لكن اتفاق هامبورغ وضع المنطقة الجنوبية تحت مظلة الاتفاق الروسي- الأميركي، وبذلك جرى استبعاد إيران منها. وبهذا، أصبح واضحًا كيف ستتم إدارة مناطق خفض التصعيد، إذ سيكون الإشراف على منطقة خفض التصعيد في الشمال من الجانبين الروسي والتركي، بينما سيؤدي الجانبان الأميركي والروسي وكذلك الأردني، الدور الأبرز في تنفيذ الاتفاق جنوبي البلاد في بعض أجزاء محافظتَيْ درعا والقنيطرة، بينما يؤول تنفيذ الاتفاقية، والرقابة عليها في محيط دمشق، إلى روسيا وإيران، وهذا يعني عدم خفض التصعيد في هذه المنطقة، لأنه لا يوجد طرفٌ دوليٌّ أو إقليميٌّ مقابل إيران وروسيا فيها. وهذا يعني استمرار عمليات النظام فيها مستقبلًا.
الرابحون والخاسرون
مثل اتفاق هامبورغ انخراطًا أميركيًا أكبر في الصراع السوري، وأعاد تأكيد حقيقة أن لا حل في سورية من دون الولايات المتحدة الأميركية، لكنه في المقابل أقرّ بدور روسيا القيادي أيضًا، فروسيا هي الطرف الوحيد المؤثر في كل مناطق خفض التوتر من الشمال إلى الجنوب، وستكون موجودةً على الأرض فيها جميعًا. ويبدو أن الانخراط الأميركي يهدف إلى خدمة السياسة المزدوجة العامة للولايات المتحدة في المنطقة، والتي تقوم على احتواء إيران وهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. فمن جهةٍ؛ نجح الاتفاق في إبعاد إيران من حدود حليفَيْ واشنطن في الجنوب السوري (إسرائيل والأردن)، مع استمرار جهد احتواء مساعي طهران الرامية إلى الاستفادة من انحسار رقعة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في غرب العراق وشرق سورية. ومن جهة أخرى؛ يمهد اتفاق هامبورغ لتنسيقٍ أكبر بين واشنطن وموسكو فيما يتعلق بالصراع في سورية، يؤدي، في نهاية المطاف، إلى القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. ووفقًا لتقارير، نص اتفاق هامبورغ على إبعاد المليشيات الإيرانية 30 كيلومترًا من الحدود الأردنية- السورية، كما يتولى أطراف الاتفاق تطهير المنطقة من أي تنظيماتٍ متشددة أيضًا.
ومن زاوية جديدة؛ قد يمثل الاتفاق اقترابًا من فكرة المناطق الآمنة في سورية، والتي طرحها الرئيس ترامب عند وصوله إلى السلطة لحل مشكلة اللاجئين؛ ففي حال جرى تنفيذه، من المتوقع أن يساعد الاتفاق الأردن على إعادة عشرات آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وخصوصا من مخيم الزعتري، وهو ما قد تفعله أيضًا تركيا ولبنان ودول أخرى.
وبهذا، يمكن النظر إلى الاتفاق باعتبار أنه يحقق لكل طرفٍ من الأطراف المعنية به مصلحة ما، وهو في الواقع أقصى ما يمكن لها تحقيقه في ظل موازين القوى القائمة حاليًا. أما السوريون، وهم الأطراف الأصيلة في هذا الصراع، فقد وجدوا أنفسهم – نظامًا ومعارضةً - على الهامش؛ إذ جرى التوصل إلى الاتفاق في غيابهم، ومن دون أدنى اهتمامٍ برغباتهم. وفوق ذلك، ازدادت هواجسهم؛ إذ يجري تقسيم بلادهم إلى مناطق نفوذ تنتشر فيها قوات أجنبية على امتداد الشريط الغربي للبلاد، من الشمال إلى الجنوب، بينما يستمر تمدّد قوات حماية الشعب الكردية في الشرق والشمال الشرقي، في سياق الحرب على تنظيم الدولة.
خاتمة
يقوم اتفاق هامبورغ على حصر الصراع السوري حاليًا في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، مفترضًا أن التركيز سوف ينصبّ بعد ذلك على كيفية إدامة حالة الهدوء من خلال حل سياسي عادل، لا يمكن من دونه تحقيق استقرار مستدام وسلام دائم. فالهُدَن، واتفاقيات وقف إطلاق النار ليست وضعًا مستدامًا، وإذا لم تكن مقدمة لحل، فسوف تكون مقدمة لاستعادة النظام وحلفائه هجومهم مستقبلًا.
ويتطلب هذا الحل، في رأينا، التعامل مع أكثر العقد التي تواجه مستقبل سورية أهميةً وصعوبة، وفي مقدمتها محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المختفين قسرًا والمخطوفين، وعودة اللاجئين، وإلغاء كل آثار التغيير الديموغرافي، وتحقيق مصالحة وطنية، والتوجه نحو بناء نظام سياسي تعدّدي أساسه المواطنة، يساعد في إبقاء سورية دولةً موحدة بعيدة من التدخلات الأجنبية والاستقطابات الإقليمية والدولية.
ويعد هذا الاتفاق الأخير في سلسلة اتفاقاتٍ روسيةٍ أميركية، هدفها فرض وقف لإطلاق النار في سورية، أو في أجزاء منها، والسماح بدخول مساعدات إنسانية إلى مناطق القتال أو المناطق المحاصرة، كان أبرزها اتفاق 27 شباط/ فبراير 2016 (على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن) واتفاق 9 أيلول/ سبتمبر 2016 (في جنيف) اللذيْن وضع أسسهما وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي السابق جون كيري، فما الذي ينصّ عليه الاتفاق الجديد؟ وما أهدافه؟ وكيف يختلف عن غيره، وما فرص نجاحه؟
نص الاتفاق
بحسب وزير الخارجية الروسي؛ سيرغي لافروف، ومصادر أردنية وأميركية، ينص الاتفاق على وقف إطلاق النار على طول خطوط تماسّ يتم الاتفاق عليها بين النظام السوري والقوات المرتبطة به من جانب، وقوات المعارضة المسلحة من جانب آخر، على أن يكون ذلك خطوةً في اتجاه الوصول إلى خفضٍ دائمٍ للتصعيد في جنوب سورية، يُنهي الأعمال العدائية، ويسمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى هذه المنطقة. كما ينص الاتفاق على إنشاء مركز مراقبة في العاصمة الأردنية، عمّان، وتُراقَب الهدنة عبر أقمار صناعية وطائرات من دون طيار. ولحفظ الأمن، تنشر روسيا عناصر من شرطتها العسكرية في المنطقة.
هدف الاتفاق
تمثل الهدف الرئيس للاتفاق الذي تم الإعلان عنه في هامبورغ (ألمانيا)، وعُدّ أبرز نتائج القمة الروسية- الأميركية الأولى بين ترامب وبوتين، في إبعاد إيران والمليشيات المرتبطة بها عن خط الحدود السورية مع الأردن وإسرائيل. ولهذه الغاية، استضاف الأردن، منذ أيار/ مايو الماضي، محادثات روسية- أميركية على مستوى الخبراء، هدفها التوصل إلى اتفاقٍ يمنع وجود مجموعاتٍ تهدّد أمن الأردن؛ تكون مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو مليشيات تتبع إيران. وكانت ساحة الصراع في سورية شهدت، خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، سباقًا محمومًا على الأرض بين مختلف القوى المحلية وداعميها الإقليميين والدوليين، للسيطرة على أكبر قدر ممكن من المساحة الجغرافية السورية؛ لفرض وقائع سياسية وميدانية، تسبق انهيارًا محتملًا لتنظيم الدولة الإسلامية في مناطق سورية الشمالية والشرقية، أو تفرض وقائع على الأرض، قبل تسويةٍ سياسيةٍ ممكنة للصراع المستمر منذ نحو ستة أعوام. وتمثلت أبرز مظاهر الصراع في سعي إيران إلى إنشاء "كوريدور"، يربطها جغرافيًا بسورية عبر العراق، وصولًا إلى لبنان، من خلال السيطرة على الأراضي التي يخسرها "داعش" في غرب العراق وشرق سورية. وتأمين تموضع إيران على الحدود مع فلسطين المحتلة يسمح لها بنافذة تطل منها على الصراع العربي- الإسرائيلي، ويجعل منها لاعبًا لا غنى عنه في أي تسويةٍ مستقبليةٍ له. وقد اصطدم هذا المسعى الإيراني بمقاومةٍ أميركيةٍ، عُبِّر عنها في أكثر من مناسبة، حين قصفت طائراتٌ أميركيةٌ قوات موالية لإيران، كانت تحاول التقدم في اتجاه معبر التنف الإستراتيجي على الحدود السورية مع العراق والأردن، حيث تتمركز فصائل سورية معارضة مدعومة من واشنطن.
حاولت إسرائيل، من دون توقف، منع إيران من إنشاء وجود لها في مناطق جنوب سورية القريبة من حدودها، واستهدفت أكثر من مرة مراكز عمليات وخلايا تابعة لإيران في المنطقة، كان أبرزها الغارة التي وقعت في القنيطرة في شباط/ فبراير 2015، وسقطت فيها خلية تابعة لحزب الله، على رأسها جهاد مغنية، نجل القيادي في حزب الله عماد مغنية الذي اغتيل في دمشق مطلع عام 2008، كما استهدفت إسرائيل قادة آخرين في حزب الله، مثل سمير القنطار ومصطفى بدر الدين، كانوا، كما تدّعي إسرائيل، مسؤولين عن إنشاء وجود عسكري إيراني على حدودها الشمالية مع سورية.
وقد زادت وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية في العمق السوري خلال الشهور الأخيرة، ونالت مواقعَ مختلفةً مرتبطة بإيران، شملت محيط العاصمة دمشق ووسط البلاد وجنوبها؛ ففي 27 نيسان/ أبريل 2017، استهدفت الطائرات الإسرائيلية مستودع أسلحة لحزب الله اللبناني وخزانات وقود للطائرات في محيط مطار دمشق الدولي. وكانت تقارير إعلامية أفادت بأنّ أربع طائرات شحن؛ ثلاثٌ منها إيرانية والرابعة سورية، كانت قد وصلت إلى مطار دمشق من إيران قبل الضربة الإسرائيلية بنحو ساعتين. وفي 22 نيسان/ أبريل 2017، استهدفت طائرات إسرائيلية معسكرًا تابعًا "لقوات الدفاع الوطني"، وهي تنظيمٌ شبه عسكري تابع للنظام السوري في محافظة القنيطرة؛ ما أسفر عن مقتل ثلاثة أفراد. وفي 17 آذار/ مارس 2017 استهدفت طائراتٌ إسرائيليةٌ موقعًا قرب تدمر وسط سورية، يحتوي على صواريخ متطورة؛ ذكرت تقارير أنّها كانت معدّة لنقلها إلى حزب الله في لبنان. وقد مثّل تزايد وتيرة الهجمات الإسرائيلية على أهداف مرتبطة بإيران داخل الأراضي السورية مؤشرًا مهمًا على إصرار إسرائيل على منع أي وجود إيراني في مناطق قريبة من حدودها، أو تطوير قدرات عسكرية إيرانية قريبة منها، تمثل تهديدًا لها. وينطبق الأمر نفسه على الأردن الذي أخذ يحذّر، أخيرا، من أي محاولة إيرانية للاقتراب من حدوده الشمالية مع سورية.
تعثر "أستانة" وفشل مساعي السيطرة على درعا
مثل اتفاق هامبورغ ذروة الفشل في مساعي إيران إحكام سيطرتها على مناطق جنوب سورية، ومنذ الإعلان عن مناطق خفض التصعيد في اجتماع أستانة 4، الذي عقد مطلع شهر أيار/ مايو الماضي، ودخوله حيز التنفيذ في السادس من الشهر نفسه، وإيران تسابق الوقت لاستعادة السيطرة على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من مناطق جنوب سورية، عبر فرض "مصالحاتٍ" محلية، ومحاولة الوصول إلى الحدود السورية مع الأردن لإغلاقها، بغرض حصار المعارضة في درعا، ومنع سبل الإمداد عنها. لكن إيران لم تفشل عسكريًا فقط في تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف، قبل التوصل إلى اتفاقٍ لترسيم خطوط التماس في مناطق خفض التصعيد، بل فشلت مساعيها أيضًا خلال مؤتمر أستانة 5 الذي عقد في العاصمة الكازاخية يومَيْ 5 و6 يوليو/ تموز الجاري، في تأمين وجود عسكري لها على الأرض في المنطقة الجنوبية، بموجب اتفاق أستانة 4، بعدما رفضت روسيا التي كانت منخرطةً في محادثات بعيدة من الأضواء في عمّان مع الأميركيين الاستجابة للمطلب الإيراني، والذي جاء على شكل مسعىً لإعادة النظر في حدود التماس في منطقة خفض التصعيد في الجنوب، حيث تتولى الدول الأطراف في الاتفاق نشر قواتٍ لها في كل منطقة متّفقٍ عليها.
لم ينجح اجتماع أستانة أخيرا إلا في الاتفاق على ترسيم حدود المنطقتين الخاصتين بالغوطة الشرقية قرب دمشق ومنطقة شمال حمص، في حين فشل التوصل إلى اتفاق بين روسيا وتركيا حول حدود المنطقة الشمالية (إدلب وأجزاء من محافظات حماة وحلب واللاذقية)، وبين روسيا وإيران حول حدود المنطقة الجنوبية (أجزاء من محافظات درعا والقنيطرة والسويداء). وكانت الدول الراعية لمسار أستانة اتفقت على إقامة مراكز مراقبة، بمشاركة روسية وتركية وإيرانية في شمال سورية وجنوبها ووسطها، لكن اتفاق هامبورغ وضع المنطقة الجنوبية تحت مظلة الاتفاق الروسي- الأميركي، وبذلك جرى استبعاد إيران منها. وبهذا، أصبح واضحًا كيف ستتم إدارة مناطق خفض التصعيد، إذ سيكون الإشراف على منطقة خفض التصعيد في الشمال من الجانبين الروسي والتركي، بينما سيؤدي الجانبان الأميركي والروسي وكذلك الأردني، الدور الأبرز في تنفيذ الاتفاق جنوبي البلاد في بعض أجزاء محافظتَيْ درعا والقنيطرة، بينما يؤول تنفيذ الاتفاقية، والرقابة عليها في محيط دمشق، إلى روسيا وإيران، وهذا يعني عدم خفض التصعيد في هذه المنطقة، لأنه لا يوجد طرفٌ دوليٌّ أو إقليميٌّ مقابل إيران وروسيا فيها. وهذا يعني استمرار عمليات النظام فيها مستقبلًا.
الرابحون والخاسرون
مثل اتفاق هامبورغ انخراطًا أميركيًا أكبر في الصراع السوري، وأعاد تأكيد حقيقة أن لا حل في سورية من دون الولايات المتحدة الأميركية، لكنه في المقابل أقرّ بدور روسيا القيادي أيضًا، فروسيا هي الطرف الوحيد المؤثر في كل مناطق خفض التوتر من الشمال إلى الجنوب، وستكون موجودةً على الأرض فيها جميعًا. ويبدو أن الانخراط الأميركي يهدف إلى خدمة السياسة المزدوجة العامة للولايات المتحدة في المنطقة، والتي تقوم على احتواء إيران وهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. فمن جهةٍ؛ نجح الاتفاق في إبعاد إيران من حدود حليفَيْ واشنطن في الجنوب السوري (إسرائيل والأردن)، مع استمرار جهد احتواء مساعي طهران الرامية إلى الاستفادة من انحسار رقعة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في غرب العراق وشرق سورية. ومن جهة أخرى؛ يمهد اتفاق هامبورغ لتنسيقٍ أكبر بين واشنطن وموسكو فيما يتعلق بالصراع في سورية، يؤدي، في نهاية المطاف، إلى القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. ووفقًا لتقارير، نص اتفاق هامبورغ على إبعاد المليشيات الإيرانية 30 كيلومترًا من الحدود الأردنية- السورية، كما يتولى أطراف الاتفاق تطهير المنطقة من أي تنظيماتٍ متشددة أيضًا.
ومن زاوية جديدة؛ قد يمثل الاتفاق اقترابًا من فكرة المناطق الآمنة في سورية، والتي طرحها الرئيس ترامب عند وصوله إلى السلطة لحل مشكلة اللاجئين؛ ففي حال جرى تنفيذه، من المتوقع أن يساعد الاتفاق الأردن على إعادة عشرات آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وخصوصا من مخيم الزعتري، وهو ما قد تفعله أيضًا تركيا ولبنان ودول أخرى.
وبهذا، يمكن النظر إلى الاتفاق باعتبار أنه يحقق لكل طرفٍ من الأطراف المعنية به مصلحة ما، وهو في الواقع أقصى ما يمكن لها تحقيقه في ظل موازين القوى القائمة حاليًا. أما السوريون، وهم الأطراف الأصيلة في هذا الصراع، فقد وجدوا أنفسهم – نظامًا ومعارضةً - على الهامش؛ إذ جرى التوصل إلى الاتفاق في غيابهم، ومن دون أدنى اهتمامٍ برغباتهم. وفوق ذلك، ازدادت هواجسهم؛ إذ يجري تقسيم بلادهم إلى مناطق نفوذ تنتشر فيها قوات أجنبية على امتداد الشريط الغربي للبلاد، من الشمال إلى الجنوب، بينما يستمر تمدّد قوات حماية الشعب الكردية في الشرق والشمال الشرقي، في سياق الحرب على تنظيم الدولة.
خاتمة
يقوم اتفاق هامبورغ على حصر الصراع السوري حاليًا في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، مفترضًا أن التركيز سوف ينصبّ بعد ذلك على كيفية إدامة حالة الهدوء من خلال حل سياسي عادل، لا يمكن من دونه تحقيق استقرار مستدام وسلام دائم. فالهُدَن، واتفاقيات وقف إطلاق النار ليست وضعًا مستدامًا، وإذا لم تكن مقدمة لحل، فسوف تكون مقدمة لاستعادة النظام وحلفائه هجومهم مستقبلًا.
ويتطلب هذا الحل، في رأينا، التعامل مع أكثر العقد التي تواجه مستقبل سورية أهميةً وصعوبة، وفي مقدمتها محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المختفين قسرًا والمخطوفين، وعودة اللاجئين، وإلغاء كل آثار التغيير الديموغرافي، وتحقيق مصالحة وطنية، والتوجه نحو بناء نظام سياسي تعدّدي أساسه المواطنة، يساعد في إبقاء سورية دولةً موحدة بعيدة من التدخلات الأجنبية والاستقطابات الإقليمية والدولية.