أن يناديك الرئيس باسمك

03 نوفمبر 2022

(محمد عمران)

+ الخط -

بعدها، قد تصيبك العظمة، ولا تحسّ أن الأرض هي التي تشيلك، بل أجنحة الشهرة أمام عيون الكاميرا هي التي تأخذك وتطير بك إلى حيث لا تعلم، وناسك هناك والأصدقاء وأهل الحي الذي تسكنه وأسرتك وعائلتك وقبيلتك أيضا، وخصوصا لو ابتسم لك الرئيس وداعبك بكلمة أو كلمتين عن بطولاتك الفكرية أو جهودك في البناء أو دورك الإعلامي، بعد ما كاد أن يضعف بعضهم، أن يختار اسمك الرئيس ويناديك به من بين المئات "يعني أنا مش شايف فلان؟"، فيكون الرد في الحال: "في الموقع يا افندم". أما لو أقدم الرئيس وأراد أن يصافحك فعند ذلك يجب أن تتمالك نفسك، وتأخذ أنبوبة أوكسجين كاملة إلى صدرك حتى تتمكّن من عبور دهشة اللحظات وعنفوانها ورفعتها.

ينتقي الرؤساء هؤلاء بعناية فائقة، فهم ذخيرة اللحظات الحرجة والفارقة أمام عيون الشعب الجائع جدا إلى ضحكات الرئيس وتباسطه. ويا حبذا، لو قال آية كريمة أو حكمة للنبي سليمان مع طيره، أما لو جاء إلى ذكر بلقيس، وجمالها والقوارير، فعندئذ يطيب الكلام، حتى وإن امتد خطاب الرئيس لأول نسمات الصباح.

الحكم بطبيعته غواية، غواية تتحكّم في القلب والأرزاق وفلوس الجمارك ودخول الأنجال سلك النيابة، أو السلك الدبلوماسي أو القضاء أو الشرطة أو الطيران فوق سماوات القصور بالأجنحة والطائرات، الحكم غواية الأرض، فما بالك لو ناداك الحاكم وهو وسط شيعته وجُنده والأحباب، بالاسم، اسمك البسيط ككل الناس، وقال لك: أهلا يا علي، أو يا جرجس، أو يا محمد، وطلب منك كشف حساب المشروع أمام الشعب، وضحك في الوقت نفسه على الفول والطعمية في ظهيرة ذلك اليوم في مشروعك الناجح، سواء في دمياط أو حتى العين السخنة. الحكم غواية آمرة تفكّ حتى ألسنة خصومه في الحال.

كانت النخبة طوال حكم حسني مبارك في مقاهي الليلة السابقة للقاء مبارك بهم في معرض الكتاب، يتغامزون سرّا على من وصلت إليهم الدعوات من الرئاسة للقاء مبارك، كان بعضهم يتغيّب عن المقاهي بعد أن تصل إليه الدعوة، وقبل إشراقة الشمس تجده بالبدلة ما بين الصفوف ويحرص حرصا بالغا على رؤية من أتى في الصفوف، ولم يخبره باستلام الدعوة. كان مبارك يتغامز في الحوار عامدا، كرجل مكلف غصبا بعمل نمرة ضاحكة وسط النخبة، كأن يسأل عن عبد العال الحمامصي، فيقف عبد العال ويقول له: "كل سنة وأنت طيب يا ريّس"، ويطلب منه أن تكمل الحكومة، المحطة الجديدة في أخميم، بلد عبد العال، فيضحك مبارك بالطبع على هذا الأمر، وينادي على المفكّر محمد سيد أحمد قائلا: "اتكلم يا محمد عن فكرتك بس نفسي أفهم منك والله"، على اعتبار أن كلام محمد سيد أحمد غير مفهوم بالطبع، وهو الذي يفهم، فيضحك الجمع بالطبع على خفّة دم الرئيس الذي فاق الحد، ويتباسط عبد العال ويطلب الكلمة ثانية، فيبتسم مبارك قائلا: "قول يا عبد العال".

أحيانا نجد أنفسنا ضعفاء جدا أمام الشهرة، وقلوبنا تصير طيبةً وغير مدركة ما أهدرناه من أنفسنا أمام تلك الدقيقة التي نلناها من الحاكم أو المشهور وهو يمرّ في حديقة أو فندق أو قاعة سينما، كأن يصوّر عاملا نفسه مع الممثل حسين فهمي وهو يعمل بالنظافة في فندق في الثمانينيات في صورة كبيرة جدا، ويضعها في برواز خشب، كأيقونة في غرفة نومه، أو يحتفظ كفيف في الستينيات كان يعزف على "الأرغول" بتذكرتي حفلتين، للسيدة الراحلة أم كلثوم بسينما قصر النيل منحتهما له أم كلثوم بنفسها مجّانا بالبريد، أو يحتفظ عازف أوكرديون بتوقيع أم كلثوم له في أوتوغراف في ليلةٍ سمعت دقيقة من عزفه في حفل عائلي بمرسي مطروح، وداخل الأوتوغراف صورة بحر مطروح واضحا وجزء من المائدة تتوسّطهم أم كلثوم بالنظارة السوداء وهو واقف بالأكورديون.

الشهرة للحاكم غواية، وللمحكوم أيضا، حتى وإن كان المحكوم طالبا في وفد ذهب من جامعة القاهرة إلى بغداد وفي نهاية السبعينيات من القرن الماضي وكان أول من صافح صدام حسين، هذا الطالب، طالب الإعلام، آنذاك، طار لبه للآن وراء شهوة الحكم وشهرته وصولجانه، الحاكم وحاشيته يعرفون هؤلاء جيدا، ويظل الحاكم في خطبه يداعبهم من بعيد، كي لا يتناسوا أحلامهم، فهي قريبة المنال في أي وقت، وخصوصا إن كان الرئيس يقول دائما عن نفسه إنه ليس رئيسا للبلاد، ولكنه يكفيه شرف المواطنة، والله والله والله "ثلاثة".

الحكم يغوي بسراديبه كل الباحثين عنه في الليل والنهار، وحتى في إجازات البحر، ويغوي حتى المساكين، هؤلاء الذين يرقصون بالبيارق مئات السنين أمام موكب السلطان تحت القلعة، وقد تظل البيارق فوق أسطح منازلهم حتى بعد أن يموت السلطان ويتولّى حفيده، إلا أن بيارق حب الشهرة تظل موضع تعجّب، واللهم لا تدخلني ولا تدخل المساكين في التجربة، لأنها أليمة وقاسية وفضّاحة أيضا.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري