11 نوفمبر 2024
أن يحتجّ المثقفون الجزائريون
مؤكّدٌ أن البيان الذي صدر قبل أيام، موقّعاً من نحو أربعمائة أديب وفنان وكاتب جزائري، رفضوا فيه ترشّح رئيس بلدهم عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، محمودٌ جداً، سيما أنه اشتمل أيضاً على تأييد الدعوات المطالِبة بإنشاء "مجلس وطني تأسيسي، مهمته وضع دستور ديمقراطي..". ومهمٌّ أن مروحةً واسعةً من المثقفين الجزائريين، ومنهم شعراء ومشتغلون في المسرح والسينما، يصرّحون في البيان، عن استيلاء "عصبةٍ مشكوكٍ في انتمائها لهذا الوطن، وفي ولائها للدولة الجزائرية" على السلطة بطريقةٍ غير شرعية، و"صادرت كل الحريات ومارست كل أشكال الاستبداد". ومهمٌ في البيان أن لغته شديدةُ الوضوح وشجاعةٌ في رفض "الاستمرار في مهزلة الديمقراطية المزيّفة". وإليه، يُواظب أدباء جزائريون على نشر مقالاتٍ وبياناتٍ وتدويناتٍ في مواقع التواصل الاجتماعي، تجهر بالهدف نفسه، وهو التطلّع إلى جزائر أخرى، غير هذه "المختطَفة". ومن ذلك العريضة التي نشرها مثقفون وفنانون جزائريون مقيمون في فرنسا في صحيفة ليبراسيون، واعتزّوا فيها بحشود مواطنيهم في تظاهرات رفض ترشح بوتفليقة. ولعل الروائي واسيني الأعرج الأكثر حضوراً في الإعلام بين زملائه، في الكتابة عن "عصابة الظل" الحاكمة في بلاده، وعن الرئيس "الرهينة" الذي اعتبر واسيني ترشّحه للرئاسة مجدّداً "خطوةً خطيرةً نحو المجهول".
لا يملك واحدُنا غير امتداح هذا "الانخراط" الذي ينحاز فيه أهل الأدب وصنّاع الفنون الجزائريون مع شعبهم، في حراكه السلمي المدهش في التعبير عن أشواقه للتحرّر من اليباس السياسي في بلدهم، غير أنه امتداحٌ لا يؤجّل أسئلةً عن الأسباب التي تجعل المثقف العربي ملتحقاً بمجتمعه ومحيطه، بإصدار البيانات مثلاً، واقتصار وظيفته على هذا، في لحظاتٍ من النوع الذي تعرفه الجزائر في ربيعها الحادث في هذه الأيام. وإنْ في البال أن البيان المتحدّث عنه هنا يأتي على أن "القطاع الثقافي، كغيره من القطاعات الأخرى، ضحية تسيير سلطوي، قمعي وتعسفي".
تصدر وجاهة هذه الأسئلة من شعورٍ بتقليديّة هذا الأداء، ومن إلحاح الحاجة لأداءٍ آخر يُبادر إليه المثقفون العرب، وربما هو الطموح إلى "طليعيةٍ" مشتهاةٍ منهم، غير البيانات الساخطة. ولأننا، نحن كتاب التعاليق السيّارة في الصحافة، مولعون بالمقارنات، يأتي إلى البال أن دوْر المثقفين في دول أوروبا الشرقية، في انعطافاتها نحو انتقال ديمقراطي، إبّان انتفاضات نهايات الثمانينيات ومطالع التسعينيات، كان جوهرياً وريّادياً. وإذا كان واسيني الأعرج يكتب أن الرئيس بوتفليقة خسر موعدَه مع التاريخ، فإنه يمكن القول إن النخب الثقافية العربية تتأخّر عن مواعيدها مع شعوبها، على غير ما فعلت النخب الثقافية في أوروبا الشرقية، فلها دلالةٌ كاشفةٌ أن شاعراً في رومانيا، اسمُه ميركيا وينسكو، هو من أعلن، في التلفزيون الرسمي، سقوط النظام في بلاده، عند فرار الدكتاتور نيكولاي تشاوسيسكو. وليس منسيّاً أن المسرحي والسجين السياسي السابق، التشيكي فاكلاف هافل، صار أول رئيسٍ لبلاده، بعد انهيار النظام الشمولي الشيوعي، وقد أوصله إلى هذا المنصب المثقفون والكتّاب في بلاده، ممن عانوا من الاضطهاد، وكانوا قد اختاروه، بالتعاون مع نقاباتٍ وقوى وتشكيلاتٍ اجتماعيةٍ، للتحاور مع السلطة التي كانت تنهار. وعلى ما يؤرّخ عارفون أكثر من صاحب هذه الكلمات، فإن التغيير الذي شهدته أوروبا الشرقية كان من نتائج التواصل بين المثقفين المعارضين والحركة الشعبية الحانقة، مع العمّال مثلاً في بولندا، ومع الطلاب والعمّال في تشيكيا. ويُعتبر الصحافي السابق الذي صار أول رئيس وزراء غير شيوعي في بولندا، تاديتوش مازوفسكي، من كبار المثقفين في بلاده، وقد جاء إلى العمل السياسي من الأندية الثقافية التي كانت من أهم حواضن المعارضة التي ناهضت الاستبداد. وفي بلغاريا، يُؤشَّر إلى دورٍ مركزيٍّ للمثقفين الناشطين في الدفاع عن البيئة في معارضة نظام تيودور جيفكوف.
تحايا كثيرة مستحقةٌ لمثقفي الجزائر وكتّابها وفنانيها، وهم يشاركون شعبَهم التعبير عن أشواقه، لا في رفض ترئيس بوتفليقة مجدّداً فحسب، وإنما أيضاً في التطلع إلى إنقاذ البلاد من نظامٍ ثقيل الوطأة، تأخر موعد رحيلُه كثيرا.
تصدر وجاهة هذه الأسئلة من شعورٍ بتقليديّة هذا الأداء، ومن إلحاح الحاجة لأداءٍ آخر يُبادر إليه المثقفون العرب، وربما هو الطموح إلى "طليعيةٍ" مشتهاةٍ منهم، غير البيانات الساخطة. ولأننا، نحن كتاب التعاليق السيّارة في الصحافة، مولعون بالمقارنات، يأتي إلى البال أن دوْر المثقفين في دول أوروبا الشرقية، في انعطافاتها نحو انتقال ديمقراطي، إبّان انتفاضات نهايات الثمانينيات ومطالع التسعينيات، كان جوهرياً وريّادياً. وإذا كان واسيني الأعرج يكتب أن الرئيس بوتفليقة خسر موعدَه مع التاريخ، فإنه يمكن القول إن النخب الثقافية العربية تتأخّر عن مواعيدها مع شعوبها، على غير ما فعلت النخب الثقافية في أوروبا الشرقية، فلها دلالةٌ كاشفةٌ أن شاعراً في رومانيا، اسمُه ميركيا وينسكو، هو من أعلن، في التلفزيون الرسمي، سقوط النظام في بلاده، عند فرار الدكتاتور نيكولاي تشاوسيسكو. وليس منسيّاً أن المسرحي والسجين السياسي السابق، التشيكي فاكلاف هافل، صار أول رئيسٍ لبلاده، بعد انهيار النظام الشمولي الشيوعي، وقد أوصله إلى هذا المنصب المثقفون والكتّاب في بلاده، ممن عانوا من الاضطهاد، وكانوا قد اختاروه، بالتعاون مع نقاباتٍ وقوى وتشكيلاتٍ اجتماعيةٍ، للتحاور مع السلطة التي كانت تنهار. وعلى ما يؤرّخ عارفون أكثر من صاحب هذه الكلمات، فإن التغيير الذي شهدته أوروبا الشرقية كان من نتائج التواصل بين المثقفين المعارضين والحركة الشعبية الحانقة، مع العمّال مثلاً في بولندا، ومع الطلاب والعمّال في تشيكيا. ويُعتبر الصحافي السابق الذي صار أول رئيس وزراء غير شيوعي في بولندا، تاديتوش مازوفسكي، من كبار المثقفين في بلاده، وقد جاء إلى العمل السياسي من الأندية الثقافية التي كانت من أهم حواضن المعارضة التي ناهضت الاستبداد. وفي بلغاريا، يُؤشَّر إلى دورٍ مركزيٍّ للمثقفين الناشطين في الدفاع عن البيئة في معارضة نظام تيودور جيفكوف.
تحايا كثيرة مستحقةٌ لمثقفي الجزائر وكتّابها وفنانيها، وهم يشاركون شعبَهم التعبير عن أشواقه، لا في رفض ترئيس بوتفليقة مجدّداً فحسب، وإنما أيضاً في التطلع إلى إنقاذ البلاد من نظامٍ ثقيل الوطأة، تأخر موعد رحيلُه كثيرا.