11 نوفمبر 2024
"أنا وشادي غنّينا سوا.."
طريفةٌ وخفيفةُ دم، أغنية "بلحة" التي سخرت من عبد الفتاح السيسي. مرّت قبل عامين، ولم تكترِث لها، وكيف لك أن تفعل، وهي مجرّد مزحةٍ شبابيةٍ، تطوف في "يوتيوب"، وأمرُها ليس من مشاغلك المعتادة. لم ينوّه بها زميلٌ أو صديقٌ قدّامك، ويشجعك على سماعها، ويبعث فيك فضولا بشأنها. مات الشاب الذي أنجز إخراجها الفني، مات الأسبوع الحالي في السجن الذي أُخذ إليه قبل عامين وشهرين، "بتهمة الاشتراك في عمل فنّي يتضمن قذفا وسبابا لرئيس الجمهورية"، مات، في حبسه "الاحتياطي" (!) هذا، بعد مغالبته المرض، وضنّ عليه السجّانون بالإسعاف والعلاج والتداوي. اسمه شادي حبش، وعمره 22 عاما. ليس من نعتٍ للحادثة هذه سوى أنها جريمةٌ موصوفة. تُشعرك بحرجٍ شديد، فقد غفلتَ عن سفالة نظام السيسي في حبْسه هذا الفتى، بالتهمة السخيفة تلك، ومعه كاتب الأغنية، واسمُه جلال البحيري، ومصطفى جمال وأحمد شوقي، مسؤولا "السوشيال ميديا" لصفحة مغني الأغنية، رامي عصام، وعازف الغيتار رامي صدقي، أما المغنّي نفسه فقد نجا، لإقامته خارج مصر.
لمّا تسمعها "بلحة"، لا تقدر على التقاط كلماتها بيُسر، عليك بالأناة والتمهّل، لتفهَم بالضبط ما يقوله المغني. ولكنك غالبا لن تفعل، فالإيقاع السريع في موسيقاها يُشعرك أنها مجرّد ضجيج، مثيرٍ للفرجة على من يؤدّيه أكثر من سماعه، فيه ظرافةٌ ظاهرة، فمشهد المغني نفسِه، يرقصُ، وينطّ، ويتقافز، شعرُه المرسل، ولحيتُه المتروكة، ونظّارته الخضراء، ولباسُه الذي كيفما اتفق، ذلك كله هو ما ستنشدّ إليه، وهو يفعل ما يفعل في الدقائق الأربع (و43 ثانية) بعد أن يأكل بلحة. وعندما تُنصت إلى ما تقوله الأغنية، تضحك، وتفرح أيضا لأن فتيةً مصريين وجدوا في السخرية من شخص السيسي، والتنكيت على ما يصنع ويقول، سلاحا في وُسعهم أن يشهروه أمام جبروت سلطته. ربما كان ظنّهم أنهم قد يتعرّضون لفركة أذن صغيرة، لاستدعاءٍ في مقر أمنيّ بعض الوقت، وتقريعهم على ما فعلوا، وتهديدهم بأنهم إذا كرّروه سيلقون ما هو أشد. ربما تخيلوا أنها حبسة يومين ثم خروجٌ بكفالةٍ وتعهد. ربما جاء إلى مداركهم أن شيئا من هذا قد يحدُث لهم، وهو مقدورٌ عليه، وهم الذين لا شغل لهم بالسياسة، وإنما فنانون وعاملون في وسائط الميديا والسوشيال ميديا.
الحاكمون في مصر مرتعشون، ورئيسهم مذعور. حاله هذا وحالهم ذاك هما ما يجعلهم يحبسون الناس، كل الناس الذين لا يريدون شكر العلي القدير على نعمته عليهم بأنه منّ عليهم، وعلى مصر، بقائدٍ لا يُجارى، في كل شأنٍ وموضوع، ويصل الليل بالنهار من أجل نفع الشعب. .. لا تفسير غير هذا لولع أولئك ورئيسهم بسجن الناس واحتجازهم، وقتل المرضى والمتعبين منهم، فلم يمرّ في كل تاريخ مصر، القريب والبعيد، أن توفي في زنازينها ومراكز التوقيف 954 محبوسا في ستّ سنواتٍ ونصف السنة (من 30 يونيو/ حزيران 2013 – نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، بحسب جمعيةٍ حقوقيةٍ مصريةٍ مستقلة. زيد عليهم من زيدوا من ضحايا التعذيب والقتل الطبي في الأشهر الخمسة الماضية، منهم شادي حبش الذي لم تقتله أغنيةٌ ساهم في إنجاز فُرجتها، على ما يتقوّل ساقطون تابعون لبساطير العساكر، وإنما قتله من يحكمون في مصر ولا ينجزون غير الفشل، وغرضُهم أن يصنعوا مجتمعا ساكتا، خائفا.
يقول أهل الدراما والسينما الموهوبون إن صوت قطرات ماءٍ في غرفةٍ مظلمةٍ تشيع مقادير من الخوف عند المتفرّج أكثر من خوفٍ يبعثه مشهد محاربين يسقطون قتلى في معركة. وما ذاع، في الأيام القليلة الماضية، عن الشباب المصريين، المحتجزين، وهم مخطوفون وأسرى في صفتيْن أكثر دقة، في زنزانة 2/2 عنبر 4 في سجن طره في القاهرة، مروّع. شادي حبش هو الثاني يموت فيها، بعد العشريني الآخر، عمر عادل، الذي نزعوه من بينهم إلى زنزانةٍ شديدة الضيق منفردا فيها، تأديبا له، بعد العثور معه على هاتف، وفيها مات في يوليو/ تموز الماضي. التحق به شادي قبل أيام، لم تلتفت إدارة السجن لاستغاثاته، وهو يعاني من قرحةٍ في المعدة، قال الشباب إنه ظلّ يتلوّى بينهم حتى مات.
ضاع شادي في أغنية رحبانية كلماتٍ ولحنا، بالغة الرهافة. تقول فيها فيروز "أنا وشادي غنّينا سوا". .. أسمع أغنية "بلحة"، وأتخيّل شادي حبش بجانبي، ونغنّيها سوا.
الحاكمون في مصر مرتعشون، ورئيسهم مذعور. حاله هذا وحالهم ذاك هما ما يجعلهم يحبسون الناس، كل الناس الذين لا يريدون شكر العلي القدير على نعمته عليهم بأنه منّ عليهم، وعلى مصر، بقائدٍ لا يُجارى، في كل شأنٍ وموضوع، ويصل الليل بالنهار من أجل نفع الشعب. .. لا تفسير غير هذا لولع أولئك ورئيسهم بسجن الناس واحتجازهم، وقتل المرضى والمتعبين منهم، فلم يمرّ في كل تاريخ مصر، القريب والبعيد، أن توفي في زنازينها ومراكز التوقيف 954 محبوسا في ستّ سنواتٍ ونصف السنة (من 30 يونيو/ حزيران 2013 – نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، بحسب جمعيةٍ حقوقيةٍ مصريةٍ مستقلة. زيد عليهم من زيدوا من ضحايا التعذيب والقتل الطبي في الأشهر الخمسة الماضية، منهم شادي حبش الذي لم تقتله أغنيةٌ ساهم في إنجاز فُرجتها، على ما يتقوّل ساقطون تابعون لبساطير العساكر، وإنما قتله من يحكمون في مصر ولا ينجزون غير الفشل، وغرضُهم أن يصنعوا مجتمعا ساكتا، خائفا.
يقول أهل الدراما والسينما الموهوبون إن صوت قطرات ماءٍ في غرفةٍ مظلمةٍ تشيع مقادير من الخوف عند المتفرّج أكثر من خوفٍ يبعثه مشهد محاربين يسقطون قتلى في معركة. وما ذاع، في الأيام القليلة الماضية، عن الشباب المصريين، المحتجزين، وهم مخطوفون وأسرى في صفتيْن أكثر دقة، في زنزانة 2/2 عنبر 4 في سجن طره في القاهرة، مروّع. شادي حبش هو الثاني يموت فيها، بعد العشريني الآخر، عمر عادل، الذي نزعوه من بينهم إلى زنزانةٍ شديدة الضيق منفردا فيها، تأديبا له، بعد العثور معه على هاتف، وفيها مات في يوليو/ تموز الماضي. التحق به شادي قبل أيام، لم تلتفت إدارة السجن لاستغاثاته، وهو يعاني من قرحةٍ في المعدة، قال الشباب إنه ظلّ يتلوّى بينهم حتى مات.
ضاع شادي في أغنية رحبانية كلماتٍ ولحنا، بالغة الرهافة. تقول فيها فيروز "أنا وشادي غنّينا سوا". .. أسمع أغنية "بلحة"، وأتخيّل شادي حبش بجانبي، ونغنّيها سوا.