25 اغسطس 2024
أم تضرب ابنها بالحذاء
ملأتْ صفحاتِ التواصل الاجتماعي، في فترة عيد الأم، نكتةٌ تقول إن طفلاً أهدى والدتَه في الصباح شحّاطة بلاستيكية، وفي المساء ضربته بها على مؤخرته.
أعادتني هذه الطرفة بالذاكرة إلى أيام الطفولة، حيث أمي، وهي امرأة صغيرة الحجم، شقراء بعينين زرقاوين، تركض في الدار الكبيرة (التي يلعبُ فيها الخَيَّال) من أول طلوع الشمس وحتى صلاة العشاء، وهي ترتب، وتكنس، وتشطف، وتفتح البلاليع التي تسدّها الأوساخُ الناجمة عن التكنيس، وتوجه شقيقاتي ليقمن بأعمال أخرى في المطبخ، أو في الغرف الكثيرة التي تحيط بأرض الدار. وفي أثناء هذا، كنا، نحن الصغار، نركض بين الأبواب والنوافذ، ونملأ الدنيا ضجيجاً وصياحاً، غير آبهين بما نُسقطه في طريقنا من الأواني، أو بما يتسخ من الأراضي، أو بمن ينزعج من أصواتنا وفوضانا، وكانت أقصى عقوبة نتلقاها من الوالدة هي التهديد بالغضب، إذ تقول: والله إذا ما بتسمعوا كلمتي بدي أغضب عليكم.
هذا كله يمكن أن يحصل في غياب الوالد الذي كان ذا نظرة قادرة على إيقاع الطائر من علاه، وإذا حضر فسرعان ما يسود الهدوء في البيت، فإذا ألقيتَ إبرة الخياط على الأرض تسمع لها رنّة. في غرفة الجلوس كان كل واحد منا يتقوقع في زاويةٍ قصية، بعيداً عن مرمى نظره. وحتى الست الوالدة التي كانت تقوم بوظيفة الترجمان بيننا وبينه، تبدو خائفة، تحسب خطواتها وكلامها وأنفاسها، على الديزم..
كانت شخصية أبي أقرب ما تكون إلى شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، فهو كريم، طيب القلب، محبٌّ للناس، وكانت له شلة أصدقاء حينما كانوا يسهرون في دارنا في الحارة الغربية يصبح بإمكان أهالي الحارة الشرقية أن يسمعوا أصوات الضحك الجماعي القادم من عندنا، وقد أرسلتني والدتي مرّة لأرى إن كان والدي يحتاج شيئاً، فهالني أن رأيتُه قد توسط عقدَ التنكيت والفكاهة، وإحداث الضحك في الجلسة.
عشنا في ظل أبينا وأمنا خمسين سنة، وإذا بالوالد يغادرنا، من دون سابق إنذار. وعشنا بعدها، في رفقة الوالدة، خمساً وأربعين سنة، والآن، يستطيع الواحد منا أن يحكم على الوضع الذي مضى بشيءٍ من التجرّد عن العواطف، ونقول إن الوالد الذي كان الذكرَ الوحيدَ عند والديه استطاع أن يخلف حوالي عشرين ولداً، من زوجتين، إحداهما أمُّنا، بقي منهم على قيد الحياة عشية وفاته ست عشرة، ولعل هذه الكثرة العجيبة قد ألهمته أن يكون صارماً متجهماً، فلو أنه تهاون معنا، وأظهر لنا ما في قلبه من حنان، لكنا أمضينا الوقت ونحن ننطنط على كتفيه مثل السعادين. أما والدتنا الكريمة، فكان لديها من العطف ما يكفي لأن تأخذ وتعطي مع كل واحد منا على حدة، وتسمع مشكلته إلى أقصاها، وكان الواحد منا وكأنه مصابٌ، منذ صغره، بمرض انفصام الشخصية، يقف أمام الوالد مرعوباً، مضطرباً، يجيب عن الأسئلة باختصار، لأن فمه يكون عالقاً بسقف حلقه، بينما يتحوّل أمام تلك المرأة الطيبة إلى محامٍ أقوى حجةً ودفوعاً من الأستاذ "بطاطا" في أحد مسلسلات أسامة أنور عكاشة. وفي أحيانٍ كثيرة، نتجاوز معها حدود الأدب واللياقة، ويحين وقت العقوبة، فلا نجد لديها سوى التهديد بالغضب. وكانت امرأة زاهدة بملذات الحياة، وهذا غريب، لم أجد له طوال حياتي جواباً، متسامحة حتى بحصّتها من زوجها، وكانت تحب زوجةَ زوجها، وتتعامل معها كما لو أنها أختها. ومن أطرف ما مر معها أن إحدى جاراتها جاءت تزورها في سنة 1950، في صباح اليوم التالي لزواج والدي من أخرى، وقالت لها: والله، يا أم طارق، طول الليل ما نمت من قهري عليك. فضحكت أمي، وقالت: لأيش عذبتي حالك وقلقتي وانقهرتي؟ الله وكيلك أنا نمت بعد صلاة العشاء مباشرة.
أعادتني هذه الطرفة بالذاكرة إلى أيام الطفولة، حيث أمي، وهي امرأة صغيرة الحجم، شقراء بعينين زرقاوين، تركض في الدار الكبيرة (التي يلعبُ فيها الخَيَّال) من أول طلوع الشمس وحتى صلاة العشاء، وهي ترتب، وتكنس، وتشطف، وتفتح البلاليع التي تسدّها الأوساخُ الناجمة عن التكنيس، وتوجه شقيقاتي ليقمن بأعمال أخرى في المطبخ، أو في الغرف الكثيرة التي تحيط بأرض الدار. وفي أثناء هذا، كنا، نحن الصغار، نركض بين الأبواب والنوافذ، ونملأ الدنيا ضجيجاً وصياحاً، غير آبهين بما نُسقطه في طريقنا من الأواني، أو بما يتسخ من الأراضي، أو بمن ينزعج من أصواتنا وفوضانا، وكانت أقصى عقوبة نتلقاها من الوالدة هي التهديد بالغضب، إذ تقول: والله إذا ما بتسمعوا كلمتي بدي أغضب عليكم.
هذا كله يمكن أن يحصل في غياب الوالد الذي كان ذا نظرة قادرة على إيقاع الطائر من علاه، وإذا حضر فسرعان ما يسود الهدوء في البيت، فإذا ألقيتَ إبرة الخياط على الأرض تسمع لها رنّة. في غرفة الجلوس كان كل واحد منا يتقوقع في زاويةٍ قصية، بعيداً عن مرمى نظره. وحتى الست الوالدة التي كانت تقوم بوظيفة الترجمان بيننا وبينه، تبدو خائفة، تحسب خطواتها وكلامها وأنفاسها، على الديزم..
كانت شخصية أبي أقرب ما تكون إلى شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، فهو كريم، طيب القلب، محبٌّ للناس، وكانت له شلة أصدقاء حينما كانوا يسهرون في دارنا في الحارة الغربية يصبح بإمكان أهالي الحارة الشرقية أن يسمعوا أصوات الضحك الجماعي القادم من عندنا، وقد أرسلتني والدتي مرّة لأرى إن كان والدي يحتاج شيئاً، فهالني أن رأيتُه قد توسط عقدَ التنكيت والفكاهة، وإحداث الضحك في الجلسة.
عشنا في ظل أبينا وأمنا خمسين سنة، وإذا بالوالد يغادرنا، من دون سابق إنذار. وعشنا بعدها، في رفقة الوالدة، خمساً وأربعين سنة، والآن، يستطيع الواحد منا أن يحكم على الوضع الذي مضى بشيءٍ من التجرّد عن العواطف، ونقول إن الوالد الذي كان الذكرَ الوحيدَ عند والديه استطاع أن يخلف حوالي عشرين ولداً، من زوجتين، إحداهما أمُّنا، بقي منهم على قيد الحياة عشية وفاته ست عشرة، ولعل هذه الكثرة العجيبة قد ألهمته أن يكون صارماً متجهماً، فلو أنه تهاون معنا، وأظهر لنا ما في قلبه من حنان، لكنا أمضينا الوقت ونحن ننطنط على كتفيه مثل السعادين. أما والدتنا الكريمة، فكان لديها من العطف ما يكفي لأن تأخذ وتعطي مع كل واحد منا على حدة، وتسمع مشكلته إلى أقصاها، وكان الواحد منا وكأنه مصابٌ، منذ صغره، بمرض انفصام الشخصية، يقف أمام الوالد مرعوباً، مضطرباً، يجيب عن الأسئلة باختصار، لأن فمه يكون عالقاً بسقف حلقه، بينما يتحوّل أمام تلك المرأة الطيبة إلى محامٍ أقوى حجةً ودفوعاً من الأستاذ "بطاطا" في أحد مسلسلات أسامة أنور عكاشة. وفي أحيانٍ كثيرة، نتجاوز معها حدود الأدب واللياقة، ويحين وقت العقوبة، فلا نجد لديها سوى التهديد بالغضب. وكانت امرأة زاهدة بملذات الحياة، وهذا غريب، لم أجد له طوال حياتي جواباً، متسامحة حتى بحصّتها من زوجها، وكانت تحب زوجةَ زوجها، وتتعامل معها كما لو أنها أختها. ومن أطرف ما مر معها أن إحدى جاراتها جاءت تزورها في سنة 1950، في صباح اليوم التالي لزواج والدي من أخرى، وقالت لها: والله، يا أم طارق، طول الليل ما نمت من قهري عليك. فضحكت أمي، وقالت: لأيش عذبتي حالك وقلقتي وانقهرتي؟ الله وكيلك أنا نمت بعد صلاة العشاء مباشرة.