أمّهات متطفّلات
تعرض حاليا منصّة نتفليكس فيلم "the meddler" ("المتطفّلة" بالترجمة العربية)، سيناريو وإخراج الأميركية لوريني سكافاريا، وبطولة النجمة سوزان سارندون، وإصدار عام 2015. يتحدّث عن مارني مينيرفيني، سيدة من نيويورك تجاوزت الستين من عمرها، فقدت زوجها. ولديها ابنة وحيدة (لوري)، ثلاثينية تعمل كاتبة سيناريو وتعيش في لوس أنجليس، فتقرّر مارني الانتقال إلى العيش في المدينة نفسها لتكون قريبة من ابنتها الوحيدة التي تعيش مع كلبين بعد أن تخلّت عن فكرة الزواج، وتعاني من الفشل العاطفي، ما يترك أثره علي حياتها واستقرارها النفسي؛ يُضاف إلى ذلك اشتياقها إلى والدها الراحل، وعدم التعوّد على فكرة رحيله.
تحاول مارني التي تشعر بالوحدة والفراغ بعد رحيل زوجها، ولديها عواطف أمومة مبالغ بها تجاهه، أن تجعل من الاهتمام بابنتها الوحيدة محور حياتها، فهي تتّصل بها عدّة مرّات في اليوم، وترسل إليها الرسائل النصّية وتدخل منزلها بالمفتاح من دون أن تقرع الجرس قبل دخولها، وتتعرّف على أصدقاء ابنتها، وتعمل على ترتيب مواعيد عاطفية لها كي تنسى حبيبها السابق، وتحاول أن تتدخل حتىِ فيما يخصّ عملها. ولكن هذا كله يجعل الابنة تشعر كما لو أنها محاصرَة، وهي المعتادة على العيش وحدها وعلى الاستقلالية في حياتها، والتصرّف امرأة وحيدة ناضجة ومستقلة ومسؤولة عن خياراتها، ما يجعل من الصدام بين الأم والابنة أمراً لا مفرّ منه، حتى أن لوري تطلب من والدتها منحها مساحتها الخاصّة، وعدم التدخّل في حياتها الشخصية، أو فرض نفسها عليها إلا إذا هي احتاجتها؛ ما يجعل مارني تبحث عن بدائل لتفرغ معها تلك الشحنة العاطفية الكبيرة، والفراغ الذي تشعر به، فتحاول مساعدة شبابٍ في سن ابنتها تقريبا ماديا ومعنويا لإكمال حياتهم، وتتطوّع لخدمة المرضى المسنين؛ لكنها، في الوقت نفسه، هي دائما على أهبة الاستعداد لمساعدة ابنتها التي تطلب منها رعاية الكلبين عند سفرها إلى نيويورك لتصوير حلقة من المسلسل الذي تكتبه.
قد يبدو الفيلم للوهلة الأولى بسيطا يحكي عن علاقةٍ مرتبكةٍ بين أمٍّ وابنتها، خصوصا لمُشاهدٍ لا فكرة لديه عن حالة المرأة الستّينية التي تعيش وحدها، أو عن فكرة العلاقة بين الأم والابنة الوحيدة المستقلة. تقول مخرجة الفيلم وكاتبته إنها تحكي قصّتها مع والدتها، معاناتهما معا للوصول إلى صيغة مشتركة لعلاقة صحية بعد أن حكم الظرف أن تعيشا متجاورتيْن.
اكتشفتُ، وأنا أتابع الفيلم، أن صنّاعه يحكون قصتي الحالية مع ابنتي الوحيدة التي انتقلت منذ مدة قريبة لتعيش قربي بعد سنوات طويلة من العيش في قارّة أخرى، لم نكن نلتقي خلالها إلا لأيام قليلة. تعيش ابنتي الثلاثينية التي تعمل (للمصادفة) كاتبة سيناريو حاليا بالقرب مني في شقة خاصة بها، لديها قطّة تعتني بها بعد أن تخلت عن فكرة الزواج والإنجاب.
كنتُ أفعل معها ما فعلته مارني بطلة الفيلم مع ابنتها، إلى أن طلَبت مني، وبقسوة، عدم التدخّل في حياتها وعدم الاتصال بها إلا للضرورة وعدم السؤال اليومي عن مجريات عملها وحياتها وعلاقاتها. سأعترفُ أنني شعرتُ بالخذلان، فما أفعله محاولة مساعدتها على العيش في بلدٍ جديد اختبرتُه قبلها بسنوات طويلة. وما أفعله أيضا هو محاولة تعويض لي ولها عن السنوات الطويلة من العيش منفصلتين تماما، ومحاولة استعادة الأمومة التي كنتُ قد ركنتها جانبا سنوات طويلة أيضا. وفي وسط هذا، تناسيت أن ابنتي أصبحت امرأة كاملة لها شخصية مستقلة تماماً، وأنها عاشت أكثر من عشر سنواتٍ وحدها في أوروبا، حيث الحرّية الفردية والاستقلالية التامة حقّان مقدّسان. لكن ماذا أفعل بمشاعر الأمومة هذه التي تعتريني، وماذا أفعل بالقلق الذي ينتابني حينما يمرّ يوم لا أسمع فيه صوتها؟.
تماماً، مثل مارني، أحاول التطفّل على حياة ابنتي بسبب أمومتي الفائضة، لكن هذا التطفّل، إن صحّت التسمية، يجعل علاقتنا معا مرتبكة وغير سويّة، وفيها كمية من الضغط النفسي المؤذي لي ولها، وعليّ أنا ضرورة السعي إلى تغيير ذلك، ليس لأنني الأكبر سنّا، بل لأنني أنا فعلا من أقتحم حياتها واستقلاليتها، لأنني أنا من أتطفل علي حياتها باسم الأمومة.