أمّهات في زنازين كثيرة
في كل مرة، حينما يقترب عيد الأم، يخطر لمحسوبكم هذا السؤال: لماذا كل ما يُكتب عن الأم، في عيدها أو في الأيام العادية، يجب أن يكون مديحاً؟ ألا تنتمي الأم إلى جنس البشر الذين يصيبون ويخطئون؟ ولماذا لا نستطيع أن نحكي عنها بتجرّد، مثلما نحكي عن أي إنسان آخر؟ أعتقد أن مصدر هذا الالتباس ديني واجتماعي في آن واحد، فالنبي محمد (ص) أراد أن يُظهر القيمة الرمزية للأمهات، وما يعانينه في أثناء الحمل والولادة والأمومة والحنو على الأولاد، فقال إن الجنة تحت أقدامهن.. ولكن الأمهات أنفسهن، حينما يرتكبن الذنوب والمعاصي يعاقبهن الدين نفسه، وما من أحد، كما يقولون، على رأسه خيمة. وإذا نحّينا مكانتها الدينية جانباً؛ نجد أن للأم، في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، مكانة اجتماعية رفيعة. الأبناء، في مدينة حلب، مثلاً، حينما يتحدّثون عنها لا يقولون أمي، أو الوالدة، أو أم فلان، بل يقولون "الحاجّة"، وهذا لا يعني أنها ذهبت إلى الحج حتماً. والزوج هو الآخر، حينما يتحدّث عن زوجته يقول "الحاجة"، وفي هذا إيحاء بالفضيلة والطهر، والترفع عن بهارج الحياة. بالإضافة إلى أن هؤلاء السادة الذكور كلهم لا يرغبون في أن ينتشر الاسم الحقيقي للأم بين الناس، بينما يُعرف الواحد من الذكور بلقب "أبو فلان"، منذ أن يبدأ صوته الرفيع يخشوشن، ويصبح مثل جاروشة البرغل.. ومن هنا، نفهم السبب الذي يجعل شخصاً يريد أن يهين شخصاً آخر فيسبّ أمه.
الظروف الاجتماعية ذاتها فرضت على المرأة بشكل عام، وعلى الأم بشكل خاص، أن تكون ضحية، ومضحّية. يجد زيدٌ من الرجال في نفسه شيئاً من العفّة، فينتظر سنة كاملة بعد وفاة زوجته، حتى يعلن، أمام أهله وأولاده، أنه سيتزوج. ويعلن عمروٌ، بعد انتهاء أيام التعزية الثلاثة، أنه سيتزوج، ويهب الذين حوله كلهم، ليسوّغوا له هذا تحت يافطات متعدّدة، منها أن الموت حق، وهذا "حال الدنيا" كما جاء في مونودراما الأديب الراحل ممدوح عدوان، ومنها أن الرجل لا يستطيع العيش دون امرأة، صعبة يا خيو.. الفقرة القائلة إن الرجل لا يستطيع العيش من دون امرأة صحيحة، بل وبديهية، ولكنها تطرح علينا سؤالاً جدّياً: كيف، إذن، تستطيع المرأة العيش بلا رجل؟ ولماذا تخجل من عواطفها، وتصرّح لإخوتها وجاراتها إن "رجال الدنيا كلهم ليسوا في عيني"، بينما الرجل يجاهر بحبه النساء؟ هناك آباء سيئون، خلفوا عدداً من الأولاد، وألقوهم في الأزقة من دون إطعام أو تغذية أو تعليم، ولكننا قلما نسمع مَن يلومهم، بينما تلام المرأة التي تركت أطفالها وتزوّجت، وتوسم بأشد الصفات خسّة.
هذا كله ونحن لم نأت إلى المكانة التي رسمها الشعراء للأم، ومنها قصيدة أمير الشعراء، أحمد شوقي، التي يزعم فيها أن الأم مدرسة يتخرّج منها الشعب العظيم. ومنها "ست الحبايب"، رائعة الشاعر حسين السيد التي رفعها محمد عبد الوهاب إلى الذرى. ومنها أغنية محمد فوزي "ماما زمانها جاية" التي غنّاها المناضل الوطني ميشيل كيلو للطفل في فرع التحقيق العسكري. وهذه حكايةٌ تلخص وضع الأمهات في معتقلات نظام الأسد الإرهابي، فقد جاء سجّان طيب، له شقيقان معتقلان، إلى ميشيل في زنزانته، وقال له: عرّف عن اسمك وعليك الأمان، فلما عرّفه على اسمه، استغرب وقال له إنهم يتهمونك بأنك جاسوس إسرائيلي. وفي الليل، اصطحبه إلى زنزانة فيها صبية معتقلة بالنيابة عن أبيها الهارب، وقد ولدت وأصبحت أماً في الزنزانة، وطلب منه أن يحكي للطفل قصة، فقال ميشيل: كان في عصفور. سأله الطفل: شو يعني عصفور؟ قال: على الشجرة، سأله: شو يعني شجرة؟ فغنّى له: ماما زمانها جاية. وكانت الأم منكمشة على نفسها في زاويةٍ من الزنزانة الحقيرة.