القراءة الأميركية للوساطة الصينية في الاتفاق السعودي - الإيراني

23 مارس 2023

المسؤول الصيني وانغ يي بين علي شمخاني (يمين) ومساعد العيبان في بكين (10/3/2023/الأناضول)

+ الخط -

أثار إعلان كل من السعودية وإيران، في 10 آذار/ مارس 2023، توصّلهما، من خلال وساطة صينية، إلى اتفاقٍ يقضي باستئناف قريب للعلاقات الدبلوماسية بينهما نقاشًا مستفيضًا في الولايات المتحدة حول أهمية الاتفاق وتداعياته على المصالح الأميركية. وفي حين مالت المعارضة الجمهورية إلى اعتبار الاتفاق نكسة للسياسة الأميركية، ودليلًا على تراجع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط لمصلحة الصين، رفضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هذه القراءة، معتبرةً أن تخفيف حدّة التوتر في منطقة الخليج يصبّ في المصلحة الأميركية. وفي مقابل ذلك، يطرح أغلب الخبراء الأميركيين بالشرق الأوسط مقاربةً مفادها بأن ثمّة تحوّلات إقليمية حقيقية ومنافسة صينية، وبدرجة أقل روسية، للولايات المتحدة في المنطقة، من دون أن يعني ذلك أن الولايات المتحدة فقدت أفضليتها فيها. 

الموقف الرسمي الأميركي

حرصت إدارة بايدن على تجنّب إظهار القلق من الاختراق الذي حقّقته الصين في منطقة الخليج، وحاولت الموازنة بين ثلاثة مستويات في تعاملها مع المسألة؛ إذ يتمثّل الأول في التقليل من أهمية أي حديث عن تدهور العلاقات الأميركية - السعودية، عبر تأكيد أن المملكة العربية السعودية كانت على اتصال وثيق مع الولايات المتحدة بشأن المحادثات مع إيران في بيجين. أمّا المستوى الثاني، فهو يتمثّل في الترحيب بالاتفاق السعودي - الإيراني، بغضِّ النظر عن الطرف الذي قاد جهود الوساطة، على أساس أن ذلك يسهم في خفض التصعيد وحدّة التوتر في المنطقة. ويقول مسؤولون أميركيون إن لدى كل من الولايات المتحدة والصين مصلحة في شرق أوسط مستقر، لأسبابٍ منها ضمان تدفق إمدادات الطاقة العالمية. في حين يتمثّل المستوى الثالث في رفض أيّ إشارةٍ توحي بتراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أو تآكل نفوذها فيه، وتحديدًا منطقة الخليج العربي، وتأكيد أن الولايات المتحدة لا تزال منخرطة على نحوٍ مكثف فيها، مع الإشارة في هذا السياق إلى التدريبات العسكرية الأخيرة المشتركة في آذار/ مارس مع كل من الإمارات والسعودية.

حقبة جديدة في الشرق الأوسط؟

على الرغم من تأكيدات للولايات المتحدة أن نفوذها في منطقة الشرق الأوسط لا يتعرّض للانحسار حاليًّا، فإنّ إجماعا بين الخبراء الأميركيين على أن النظام الإقليمي آخذٌ في التغير فعلًا، وأن الولايات المتحدة، وإنْ لا تزال الفاعل الدولي الأهم في المنطقة فإنها لم تَعُد الفاعل الوحيد. وكانت روسيا قد دخلت "خط المنافسة" في المنطقة عبر البوابة السورية في عام 2015. ومنذ عام 2019، تحوّلت الصين إلى أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وكان الافتراض السائد أميركيًّا حتى الإعلان عن إبرام الاتفاق السعودي - الإيراني بوساطة صينية أن الصين مهتمة بتأمين مصالحها الاقتصادية في المنطقة فقط، وليست مهتمةً بمزاحمة الولايات المتحدة في النفوذ السياسي والدبلوماسي. لكن ثمَّة تساؤلات اليوم في هذا الشأن، خصوصًا في ضوء المناورات المشتركة التي أجرتها الصين مع كل من إيران وروسيا في المحيط الهندي، خلال مطلع عام 2022، وقد تكرّرت مثل هذه المناورات في عام 2023. 

تَعدّ الولاياتُ المتحدة الصينَ التحدّي الأكبر لها ولحلفائها

وتَعدّ الولاياتُ المتحدة الصينَ التحدّي الأكبر لها ولحلفائها. وبحسب المقاربة الأميركية، "الصين هي الدولة الوحيدة التي لديها نية إعادة تشكيل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، في الوقت الذي تتعاظم فيه قدراتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية للقيام بذلك". وتؤكّد "استراتيجية الدفاع الوطني" الأميركية أن الصين تعمل "على إنشاء بنية تحتية خارجية وقواعد أقوى للسماح لها بإبراز قدراتها العسكرية على امتداد مسافات أبعد". ورغم أن "استراتيجية الأمن القومي الأميركية" تفصّل في التهديد الروسي لقوانين وقواعد النظام الدولي وقواعده، خصوصًا في أوروبا، فإنها لا ترى فيه تحدّيًا يوازي التحدّي الذي تمثله الصين؛ ذلك أنّ الصين "تستخدم قدراتها التكنولوجية وتأثيرها المتزايد في المؤسسات الدولية لخلق ظروف أكثر ملائمة لنموذجها الاستبدادي الخاص بها، ولصياغة أسس استخدام التكنولوجيا العالمية ومعاييرها من أجل تعزيز مصالحها وقيمها". ثمّ إنّ الصين "تستخدم قوتها الاقتصادية لإكراه الدول [...] وجعل العالم أكثر اعتمادًا عليها". وهي كذلك "تستثمر [...] في جيش يجري تحديثه بسرعة [...] في الوقت الذي تسعى فيه لإضعاف التحالفات الأميركية في المنطقة، وفي سائر أنحاء العالم". 

ورغم أن الرئيس الأميركي، بايدن، شدّد في القمة التي جمعته في مدينة جدة السعودية، خلال تموز/ يوليو 2022، بقادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الستّ (السعودية، وقطر، والإمارات، والكويت، وعُمان، والبحرين)، إضافةً إلى قادة مصر والأردن والعراق، على أن الولايات المتحدة "لن تنسحب، ولن تترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران"، فإن التأثير الصيني في المنطقة أصبح واقعًا يصعب احتواؤُه. وبعد مرور خمسة أشهر على قمة جدة، حلَّ الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في الرياض، حيث عقد ثلاث قمم مع السعودية، ثمّ مع دول مجلس التعاون، وبعد ذلك مع الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية، باستثناء سورية، ووقّع اتفاقات وشراكات مع دول الخليج العربية تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار.

تبقى حاجة السعودية إلى الولايات المتحدة كبيرة، خصوصًا أن الصين ليس من المرجّح أن تقدّم ضمانات أمنية للسعودية في المدى المنظور

بناءً على ذلك، يحذّر خبراء أميركيون من إفراط إدارة بايدن في التركيز على منطقة المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء الصين، وفي التركيز على أوروبا لاحتواء روسيا، وترك فراغات في مناطق أخرى من العالم، مثل الشرق الأوسط. ورغم أنه يوجد اتفاق بين الخبراء الأميركيين على أن الولايات المتحدة ستبقى الفاعل الأبرز في المنطقة، أمنيًّا واستخباراتيًّا وعسكريًّا، وحتى من ناحية صادرات السلاح، مع احتفاظها بنفوذ اقتصادي كبير فيها بعد الصين، فإنّ مقاربات جديدة تتبلور بشأن علاقات القوى الإقليمية في المنطقة بالقوى الكبرى. فإيران، مثلًا، تحاول كسر طوق العزلة والعقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة والغرب بسبب برنامجها النووي، عبر تطوير علاقاتها بالصين التي تُقدّم لها سوقًا مهمّة لنفطها. وتعاني إيران أوضاعًا اقتصادية صعبة، وارتفاعًا في معدّلات التضخّم، واضطرابات شعبية من جرّاء ذلك، ومن العنف في التعامل مع المتظاهرين المدنيين السلميين، فضلًا عن استنزاف مواردها نتيجةً لدعمها صراعات ينخرط فيها بعض حلفائها الإقليميين؛ مثل الحوثيين في اليمن، والمليشيات المحسوبة عليها في العراق وسورية ولبنان. ومن ثمَّ، يمثل الاتفاق مع السعودية عبر الصين محاولة لتخفيف الضغوط عليها. وتعاني السعودية، أيضًا، استنزافًا كبيرًا بسبب الحرب في اليمن، واستهداف الحوثيين مدنها ومنشآتها الحيوية، على نحو متكرّر، وخصوصًا منشآتها النفطية. وفي ظل امتناع إدارة بايدن عن مساعدتها لحسم هذه الحرب، وعدم قدرة الولايات المتحدة على جلب إيران إلى المفاوضات، ومن ثمّ الضغط على الحوثيين للتوصل إلى اتفاق، فإن الصين كانت هي الحل الأمثل بالنسبة إليها. 

معضلة العلاقة مع السعودية

تميل القراءة الأميركية إلى تفسير لجوء السعودية إلى الصين لتطبيع العلاقة مع إيران بأنها "خطوة تكتيكية" أكثر منها مقاربة استراتيجية تستهدف إدارة بايدن؛ فالسعودية ما زالت مهتمة بالحفاظ على العلاقات الوثيقة التي تربطها بالولايات المتحدة، ومن غير المرجّح أن تسعى إلى المسِّ بها من أجل علاقات أوثق مع الصين، لا سيما بالنظر إلى الشراكات العسكرية القوية التي تربطها مع الولايات المتحدة. وتحاول السعودية، على الأرجح، توظيف تقاربها مع روسيا والصين لدفع الولايات المتحدة إلى إقامة علاقاتٍ أمنيةٍ أوثق معها. وتشترط السعودية، مثلًا، للانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية" مع إسرائيل، بحسب وسائل إعلام أميركية، ضمانَ الإمداد الأميركي المستمرّ لها بالأسلحة، من دون خضوع ذلك للخلافات الحزبية، وتعزيز الضمانات الأمنية الأميركية لها أيضًا، كما أنها تريد من الولايات المتحدة مساعدتها في بناء برنامج نووي سِلمي، وهو أمرٌ يتردّد الأميركيون في الموافقة عليه، لأنهم يعتقدون أن السعوديين يمكن أن يسعوا إلى تطوير أسلحة نووية لاحقًا، في حال تمكُّن إيران من إنتاج قنبلة نووية. ويؤيد هذا الاتجاه إتمام السعودية مؤخرًا صفقتين مع شركة بوينغ الأميركية لشراء 121 طائرة ركاب من طراز "بوينغ 787 دريملاينر" بقيمة 37 مليار دولار، وهي خطوةٌ أشاد بها البيت الأبيض. وكانت السعودية أعلنت قبل ذلك عن تقديم حزمتين من المساعدات الإنسانية لأوكرانيا بقيمة 410 ملايين دولار، وهو أمرٌ رحّبت به الولايات المتحدة. وبحسب هذه القراءة أيضًا، لا يعني استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، على الأرجح، تغييرًا كبيرًا في الوضع الأمني في الخليج العربي؛ ذلك أنّ الطرفين سيبقيان، لأسبابٍ تتعلق بالمنافسة الجيوسياسية بينهما، في حالٍ من الترقّب والحذر؛ إذ لم تَنتهِ الخلافات بين الطرفين، ولم يتضمّن الاتفاق حلًّا لأيٍّ منها، ولكنه ترك أجواءً جديدة للحوار حولها بطرق سلمية.

الوساطة الصينية الناجحة في الاتفاق السعودي - الإيراني تؤكّد رغبة دول المنطقة في تبنّي مقاربات جديدة، فيما يتعلق بعلاقاتها البينية أو بخصوص تنويع خياراتها وتحالفاتها الدولية

وتبقى حاجة السعودية إلى الولايات المتحدة كبيرة، خصوصًا أن الصين ليس من المرجّح أن تقدّم ضمانات أمنية للسعودية في المدى المنظور، وتحديدًا ضد طرفٍ آخر ترتبط بعلاقة شراكة معه، هو إيران. ولا يوجد بديل من الولايات المتحدة بوصفها حليفًا استراتيجيًّا. ولكن دول المنطقة شرعت في تنويع علاقاتها منذ تبيّن في عام 2011 عدم تمكّن الولايات المتحدة من ضمان مستقبل الأنظمة، على الرغم من التزامها للدول بذلك. ومن ضمن أهداف هذا التنويع الضغطُ على الولايات المتحدة لتحصيل دعمٍ أكبر، وأكثر التزامًا، ثمّ إن الهجمات بالمسيرات والصواريخ على منابع النفط في الخليج، التي وقفت خلفها إيران، بيّنت أنه لا يوجد بديلٌ من علاقات جوارٍ سلمية إنْ لم تكن علاقات حسنة. وبحسب قائد القوات الجوية المركزية الأميركية التي تغطّي منطقة الشرق الأوسط، الجنرال أليكسوس غرينكويتش، فإن "الاضطراب في العلاقات (الأميركية - السعودية) على المستوى السياسي لا ينسحب البتّة على المستوى العسكري". ومع ذلك، دعا غرينكويتش إلى ضرورة مراقبة الولايات المتحدة دولَ منطقة الخليج التي تشتري أسلحة من الصين وروسيا، أو تسعى إلى تنويع علاقاتها الدفاعية، مع الانتباه إلى أن الولايات المتحدة تتمتّع بميزة في هذا الشأن؛ من حيث جودة المواد، والتدريب، والدعم الذي تقدمه إلى تلك الدول. 

خاتمة

مع أن الوساطة الصينية الناجحة في الاتفاق السعودي - الإيراني تؤكّد رغبة دول المنطقة في تبنّي مقاربات جديدة، فيما يتعلق بعلاقاتها البينية أو بخصوص تنويع خياراتها وتحالفاتها الدولية، فإن من غير المرجّح أن يؤدي ذلك إلى إضعاف دور الولايات المتحدة في المنطقة. وعلى عكس ذلك، قد يكون الهدف نقيضًا لذلك تمامًا؛ أي الضغط على الولايات المتحدة لأداء أدوار أكبر في المنطقة، خصوصًا أن الصين وروسيا غير قادرتيْن على تعويض الولايات المتحدة شريكا أمنيا أساسيا في المنطقة.