أميركا ونواقيس النسيان
حاول الإعلامي محمود مراد أن يفسّر الإرهاب المنسوب إلى المسلمين، وأخيرا إلى الإسلام على لسان الرئيس الفرنسي، بقرينة سينمائية أميركية. والسينما هي نص أميركا المقدس، فهوليود هي كعبة الأميركان، فتذكّرَ الأفلام الخمسة من سلسلة العميل جيسون بورن التي تتناول عالم المخابرات السرّي، ومؤامراته القذرة التي غالباً ما تزهق أرواح أبرياء لتحقيق أهداف سياسية أو مصالح شخصية. بطل الفيلم الفنان مات دامون، شاب تغيرت حياته، بعد أن أخضعته الاستخبارات لتجارب تطويع السلوك، ليتحوّل إلى آلة قتل واغتيال. رأى كاتب هذه السطور فيلماً وثائقياً إندونيسياً عن قتلةٍ ذكروا أنهم كانوا يقومون بالمذابح ضد الشيوعيين بعد جرعة من الأفلام الأميركية. وتذكرتُ وأنا أقرأ المنشور ارتداء أفراد تنظيم داعش اللون البرتقالي الخاص بسجون أميركا! وولعهم الشديد بالإخراج السينمائي، وتلكما قرينتان، وثالثة هي قرينة الانتقام، فالأفلام الأميركية هي أفلام انتقام.
ورأيت أن سلسلة بورن شديدة النمطية، ووجدت أيضاً أن السينما الأميركية، في نمطيتها، تشبه الأفلام الهندية، والتنميط تدمير للذاكرة أو على الأقل هو تنويم لها. وهناك فيلم "نظرية المؤامرة"، لميل جيبسون وجوليا روبرتس، وحكايته تشبه حكاية هذا الفيلم الذي يحذوه حذو النعل بالنعل، وهو أقدم منه بعقد، فكلا البطلين يتعرّضان إلى فقدان ذاكرة، ويجاهدان في محاولة معرفة أصلهما وهويتهما.
وكان المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري، وهو أفضل دارس عربي للحياة الفكرية والثقافية الأميركية، صاحب "كتاب الفردوس الأرضي"، قد وجد شاعر أميركا، والت ويتمان، مريضاً ومعادياً للتاريخ، وله ديوان اسمه "أغنية ذاتي"، والذات معادية للتاريخ. وبالعود إلى الأفلام الأميركية التي تجسد فقدان الذاكرة الأميركي كحبكة درامية، وأفلام أخرى تتذكّر ولكنها نسيان شامل، سنجد أنَّ بطل أفلام الكاوبوي الأميركي كائن نمطي، استمرّت بطولته لاحقاً بركوب الأميركي سيارة أو صحن فضاء بدلاً من حصان، هو: دائماً غريب، بلا هوية، بلا أقارب، بلا أب، بلا أم، ليس له أهل سوى حيوان وآلة هما حصانه ومسدّسه، يأتي من مكانٍ بعيد إلى مدينة أهم ما فيها هو صالون المشروبات والقمار، ثم يختفي في آخر الفيلم، في مغرب الشمس، ليس عنده فقدان ذاكرة، لكنه لا يتذكر سوى لحظته الحاضرة.
وفي الأفلام الأميركية تقع حسناء عابرة، مقطوعة تقريباً، في حب البطل، بلا أهل غالباً، مثله. تعاني من مشكلة، فيتصاحبان، ثم تتحرّش به، فيخضع لها من باب الإحسان إليها، أو لانشغاله بذاته، فالعاطفة والحاجة الجنسية عند البطل الأميركي عارضة. العائلة تذكّر، والفرد نسيان.
انشغل إعلامنا العربي بالصراع بين بايدن وترامب، ونسي التاريخ الذي يكْلفُ به العرب، فلم يغنِ المائدة الإعلامية بمقبلات، واكتفى بالوجبة الرئيسة، وهي إحصاء الأصوات. والحساب تجريد، والتجريد نسيان، وبعض الإفادات القانونية، وذلك نسيان أو إنساء، ومن النسيان أن نمطية الأفلام الأميركية تنشغل بالبطل وإنقاذ حبيبته، أو ابنته التي تعيش وحدها كما في فيلم قوة مطلقة، لكلينت إيستوود، فيقتل في طريق البحث عنها المئات، وننشغل معه بمصيرها مغفلين مصائر "الفكّة". ومن النسيان الأميركي أنها انخرطت في حرب خلال عقدين مع "طالبان" غرّمتها آلاف القتلى الأميركان ومليوناً من الأفغان، ولديها تجرية فيتنام المرّة، وقد نسيتها، فالأميركان يعانون من النسيان، ورؤساؤهم ضعاف الذاكرة.
قال عزيز نسين في روايته زوبك: انتشرت الحضارة الأميركية عبر التدخين. والأصوب أنها انتشرت عبر الدخان، حتى نشمل مع السيجارة الحرب. وذكر آخرون أنها انتشرت عبر السينما، فهي فنُّ أميركا الأشهر، ووسيلتها لخلب الألباب، فهي بلاد الحليب والعسل، تاريخها لا يجاوز ثلاثة قرون، فقد أباد الغزاة أصحاب التاريخ الأصليين جميعاً، ولم يبقَ منهم سوى عشائر صغيرة لتمثيل دور الأشرار في أفلام الكاوبوي والنسيان.
السرعة ضد الذاكرة، أميركا أسرع بلد في العالم، هي بلاد الحب السريع، والأكل السريع، والبيت المعلب، والقنبلة النووية التي تقضي بسرعة على العدو.
في الأفلام المذكورة، يعود البطل مغسول الذاكرة إلى رشده، وهو رشد قصير، موضعي، رفضاً لقتل الأبرياء، وانتقاماً ممن دمروا ذاكرته، فلا بد من الانتقام. الأبطال الخارقون مثل سوبرمان والوطواط وسبايدرمان هم إما من كوكب آخر أو أبطال بلا آباء، وذلك أيضاً محو للتاريخ.
العرب يتذكّرون، والذكريات العظيمة قاتلة أحياناً.