أمانٌ مصنوعٌ من الوهم

04 مارس 2023
+ الخط -

لسنا، نحن السوريين، في حالٍ جيد. علينا أن نعترف بهذا، لسنا على ما يرام أبداً. الخراب حفر كالنمل داخلنا واستقرّ. يظهر هذا في علاقاتنا مع ذواتنا وتقديرنا لها. يظهر في علاقاتنا مع المكان الذي نحن فيه، يظهر في علاقاتنا مع الآخرين، في قدراتنا على بناء هذه العلاقات أو الحفاظ عليها من التصدّع ومن ثم الانهيار. ونعيش في أمكنة معظمها مؤقت؛ أو على الأقل في أمكنة سنبقى فيها دائماً في الأنساق الخلفية لمجتمعاتها، خصوصاً مع تصاعد الفخر القومي للعنصريين وامتداده وتأثيره على التعامل مع وجود اللاجئين. أمان السوريين النفسي في تلك الأمكنة لا تقدّمه الأمكنة، بل هو ابتكار شخصي يأتي من إحاطة أنفسنا، نحن السوريين، بحالة من الشغف بالمكان، غير أن هذا الشغف ليس حقيقياً. يدرك معظمنا هذا جيداً، ويدرك أننا على درجة كبيرة من إنكار واقع أننا لاجئون، حتى لو حملنا جنسياتٍ جديدة. لن يرانا العالم سوى هكذا، لكننا نبتكر طرقنا الجوّانية لحماية "أمننا الأنطولوجي" كما يسمّيه عالم الاجتماع البريطاني، أنطوني غيدنز، وأمني الأنطولوجي هو إحساسي بنفسي وإحساسي بأن هويّتي راسخة، وأن أناي حاضرة في مكان معروف وحي في هذا العالم.

أكثر الناس احتياجاً حالياً لهذا الأمان نحن السوريين، أينما كنا، فالحرب الطويلة وما رافقها من تغريبات وهجرات وتشرّد وتردٍّ في سبل العيش لمن لم يهاجر خلخلت الكثير من أماننا (لم يكن ثابتاً أصلاً بفعل الخوف التاريخي الجمعي للسوريين، وأولى البداهات أن الخوف والأمان لا يلتقيان)، وأخذتنا إلى مصائر شخصية قاسية: اكتئابات وإدمان وأمراض عضوية خطيرة منشأها القلق والتوتر، اضطرابات نفسية جعلت سوريين كثيرين في الخارج يقصدون المصحّات النفسية، انفصالات عائلية، جرائم قتل بلا مبرّرات، ميتات غير متوقعة لشباب وشابات، سواء بالانتحار أو بالجلطات المفاجئة، التطرّف في الحريات الجنسية والتطرّف في الدين، العنف وكراهية الآخر، الشكوى الدائمة والارتياب والأنانية، وكلها نتائج طبيعية تحدُث لأبناء المجتمعات التي تعرّضت لحروبٍ قاسية، خصوصاً الحروب الأهلية.

بطبيعة الحال، لا يلغي ذلك النماذج المقابلة من النجاحات، والقدرة على الصمود والاستمرار بالحياة، والتفوّق في ترسيخ الأمان الذاتي أو الأنطولوجي، أو على الأقل هذا ما يعتقده الناجون من كل ما سبق. صدّق كثرٌ منا أننا نجونا، لأننا لم نمُت تحت القصف، أو في المعتقلات، أو بطلقات القنّاصين، وصدّقنا أيضاً أننا دخلنا إلى عوالمنا الجديدة آمنين؛ لكن حدوث ظاهرة طبيعية كبيرة كالزلزال، في الوقت الذي كنا نرسخ فيه استقرارنا، أو بالأصح نعزّز تعوّدنا على حياتنا، كان كافياً لنكتشف أن كل ما نحكيه عن الأمان وهم نخترعه لنعيش. تحدُث الكوارث الطبيعية في كل مكان، ويتعرّض لها الجميع، ويهبّ العالم للإنقاذ وإعادة توطين من فقدوا بيوتهم، وتعوّض لهم حكوماتهم عما فقدوه، ويُدفن الضحايا بطرق لائقة، إلا السوريين. يتحكّم في عمليات إنقاذهم من الزلزال كل شيء: السياسات والعنصرية والفساد والانقسام الداخلي والفشل والكراهية، (رغم موجة التعاطف السورية السورية وقت الزلزال)، كما لو كانت هذه الهوية ملعونة، وكما لو كانت الأنا السورية مضادّة لأي مكان وزمان، أو كما لو أن إدراكها من الآخرين هو ذاته إدراك البؤس والموت.

كيف سنكون بخير ونحن ورثة كل هذا الخراب؟ سأتحدّث عما حدث لي خلال الأيام الماضية، أقصد بعد الزلزال (وأنا واحدة من ملايين يشبهونني): كل الملفات التي أقفلت عليها داخلي ظهرت أمامي فجأة: الخوف من الوحدة، الخوف من العجز، من المرض، من الفاقة والحاجة، الخوف من الترحيل، من البقاء من دون أوراقٍ رسمية، الخوف من الدفن في أرض غريبة، الخوف من حدوث شيءٍ لأحبابي في سورية وعجزي عن الذهاب إليهم، الخوف من الاعتراض على أي شيءٍ حيث أنا، سلسلة طويلة من الخوف يبدو أنها تُرافق حياتي بوصفي سورية منذ لحظة ولادتي. يجعلني هذا الخوف لا أقدّر نفسي حقّ قدرها، ولا أتعامل معها كما تستحق (أتحدث عني كإنسانة فقط)، ويجعلني أفقد بوصلتي في التعامل مع الآخرين، حيث تطغى ريبتي على ثقتي بالآخرين، وهو أكثر ما أكرهه في حياتي، ففي الارتياب كثير من الأنانية، وكثير من التقييم الخاطئ للذات وللآخرين. تلك الملفّات ليست سوى حقيقة ما أنا فيه: لاجئة وحيدة تعيش بأمان شخصي مصنوع من الوهم فقط.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.