أمامك العدوّ وخلفك لا أحد

05 فبراير 2023
+ الخط -

هل أعاد خيري علقم التاريخ الفلسطيني الضالّ إلى حتميته، أم قطع مع التاريخ برمّته؛ لينشئ تاريخًا جديدًا بدأه وأقرانه من كوكبة الجيل الجديد، الذين يعيدون إلى الكوفية عقالها، وللبندقية رصاصها؟

هل كان علقم دولةً برجل واحد، عندما عقد اجتماعًا سريًّا مع نفسه في قاعة القلب، واتخذ، بوصفه رئيسًا، قرارًا بإعلان الحرب من جانب واحد، ردًّا على مجزرة جنين التي ذهب ضحيتها عشرة شهداء، على أن يتمّ التنفيذ فورًا، ومن دون التنسيق مع أيّ "سلطة بائدة"، أو حكومة "شقيقة" أو "صديقة"، وفي ذهنه يدور مشهد الغزال الذي لم يقتله غير كثرة لفتاته إلى الخلف؟.

أسئلة شتّى تطرحها العمليات الفدائية التي تقودها، أخيرًا، "أسود منفردة"، من حيث طبيعة هذه الظاهرة الفريدة، في مسار النضالات البشرية، فعندما أقدم أول شاب فلسطيني على عملية من هذا النوع قبل نحو عامين، قيل حينها إن الأمر لا يخرج عن كونه فعلًا فرديًّا قابلًا للوقوع في أيّ بلد محتلّ، يفجّره موقفٌ أو مناسبة ما، كأن يكون ردّة فعل لحظية، أو مخطّطًا لها في ذهن منفذ العملية وحده، ولا علاقة لها بمخطّطات معقدة ومرسومة من تنظيمات مقاومة، غير أن توالي هذه العمليات، وبالطريقة نفسها، جعل منها ظاهرةً وابتكارًا عبقريًّا لأسلوب نضاليّ جديد لم يعرفه العدوّ سابقًا، الذي اعتاد على عملياتٍ منظّمة ترسمها وتنفذها جهاتٌ معلومة لأجهزة "شاباكه" و"موساده"، ويسهل زرع العملاء بينها، لمعرفة تحرّكاتها ونواياها، وربما إفشال عملياتها في المهد، أو الثأر منها في حال نجاح العملية، مع تعمّد أن يشمل الثأر حواضن التنظيمات "المتورّطة" بالعملية، لتأليب المجتمعات المحيطة عليها، كما يحدُث في غزة، أو كما كان يحدث في لبنان عندما يباد البلد، حرفيًّا، بحجّة صواريخ حزب الله.

غير أن جنرالات إسرائيل وساستها يقفون اليوم واجمين تمامًا، كوجوم نتنياهو عندما زار موقع عملية القدس (غير الأخيرة بالتأكيد)، وتنتابهم الحيرة في كيفية الثأر من مثل هذه العمليات، حيث لا تنظيمات ولا حواضن، وحيث القتيل مقتول، إلا إذا أرادت إعادة قتله. وأما التلويح بـ"ضربات شديدة ومركّزة"، كما صدر عن مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغّر، فمحض هراء وكلام لاستهلاك الجمهور الإسرائيليّ الغاضب، الذي لم يعد يأمن على نفسِه في الشوارع، ولا يدري متى يتقاطع أجله مع رصاصة "أسدٍ منفرد"، وحده من يقرّر الزمان والمكان الملائمين لعمليته التي أقرّتها "حكومته" الخاصة به وحده.

وعلى الغرار ذاته، تقف أجهزة الاستخبارات الصهيونية عاجزةً ومرتبكةً في كيفية استباق مثل هذه العمليات، وإفشالها في مهدها، لأنها نمطٌ من العمليات السهلة الممتنعة التي لا تحتاج إلى خطط وتنظيمات، بل إلى شابٍّ واحدٍ فقط ومسدّس، وتوق عارم لإعادة التاريخ الفلسطيني الضالّ، أو "المضلل" إلى مساره الصائب... والصواب هنا يحتاج إلى دقّة في "التصويب"، وفق نظرية خيري علقم، الذي قال إن الأمر لا يحتاج إلى جيشٍ عرمرم، بل إلى مقاتلٍ واحدٍ يتقن التصويب. فهل كان هذا الشهيد على يقينٍ تامّ أن الرصاصة التي أطلقها لم تكن موجّهة إلى رأس المحتلّ فحسب؟ وإذا كان المحتلّ "مُضافًا"، فإن "المُضاف إليه" كثرٌ، من سلطة العار إلى أنظمة التطبيع، التي ناحت وجاحت، وشقّت الجيوب على "ضحايا" عملية القدس أزيد من نوح نتنياهو وشارون في قبره، وراحت خارجياتها (أو بيوت خارجها إن شئنا الدقّة) تُغدق من عبارات العزاء والرثاء ما فاق مرثية مالك بن الريب، ومن عبارات التضامن مع "الشقيقة" إسرائيل ما خجلت منه المتحدّثة بلسان البيت الأبيض.

كلّ هؤلاء انتبذهم خيري علقم، عندما ارتدى زيّ الحرب، وامتشق بندقيته، محدّدًا وجهته، وسابقًا مصيره، أمامه العدوّ وخلفه "لا أحد".. هكذا قرّر ونفّذ.. لأنه كان يعرف جيدًا معنى أن ينظر إلى الخلف.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.