أماسرا حيث تحتشد الدهشة

21 نوفمبر 2022

سائحة تنظر إلى الهدايا التذكارية في سوق في أماسرا التركية (20/10/2018/Getty)

+ الخط -

مبكّرا في الصباح، ومن قلب إسطنبول، استقللت الحافلة المتجهة إلى أماسرا في الشمال التركي، صحبة صديقتي اللبنانية التركية، منى حرب، المقيمة في تركيا منذ ما يربو على العقدين، وهي إعلامية ومترجمه تتقن اللغة التركية، وقبل ذلك كله نموذج الصديقة الطيبة السخية المحبة. كنا في طريقنا الى زيارة الصديقة الكاتبة والتربوية الأردنية ربيعة الناصر، المقيمة حاليا هناك، نجاة من جملة خذلانات، قد أكتبها يوما عند الحديث عن أوطانٍ تجحد بناتها وأبناءها بعد مسيرة عطاء طويلة. ضلّلتنا شركة السفريات حين أوهمتنا أن الطريق لن تتجاوز الساعات الخمس، إذ بلغت مدة الرحلة تسع ساعات. والحق كانت الضلالة الأجمل، إذ أتاحت لي الدخول في عمق تركيا التي لا يعرفها السياح. طريق طويلة ممتدّة من الجمال الباهر، تحيط بها أشجار كثيفة يتدرّج بها اللون الأخضر بكل مراحله في مشهدٍ شتوي خريفي بديع، تخللها وقفات عديدة في قرى ومدن صغيرة ببيوت خشبية ملوّنه تحيط بها الزهور، وينطلق من مدافئها الدخان الذي يشي بالدفء وراحة البال. 
هتفت بربيعة، حين وصولنا منهكتين: ما الذي أتى بك إلى هذه البقعة النائية؟! في الفجر وقبل بزوغ الشمس، ومن على شرفة بيتها، أدركت أن صديقتي قد وقعت مختارة راضية في أسر الفتنة. داهمني البحر والجبل والجزيرة المقابلة وأسراب النوارس ومجموعات النسور والصقور والغربان وهي تزعق إيذانا ببدء يوم جديد. عندها أدركت مدى حماقة سؤالي. إنها تقطن في حضن الجمال شخصيا. وفي محاولة للاعتذار عن سؤالي الساذج، أعددت دلّة القهوة، واخترت ما تيسر من أغاني فيروز. استيقظت ربيعة ضاحكة سعيدة بنا، وقد أدركت ما أصابني مما أسميتها صدمة جمالية/ حضارية، وأنا أحاول التخلص من مشاعر السخط على بلادنا القاحلة المقفرة المتصحّرة، كي استثمر الوقت المتاح في تأمل هذا الجمال الخالص، الباعث على السكينة. 
وفي جولة صباحية بين البيوت العتيقة والطرق الضيقة المتعرّجة ووجوه ناس أماسرا من الفلاحين والصيادين، ترحب بنا بكل الحفاوة الممكنة. ينطلق الرجال إلى أعمالهم في المحال التجارية والميناء. وتنصب ربّات البيوت بسطات مرتجلة من منتجاتهن اليدوية، على أمل بيعها للزائرين القادمين إلى بحرها من أنقرة والمناطق المجاورة، فأماسرا لا توجد على خريطة السياح المتلهفين لزيارة إسطنبول والجزر الشهيرة، مثل أنطالية وفتحية وطربزون، بل تعتمد على السياحة الداخلية حصريا، وتكتظ شوارعها بالفنادق الصغيرة التي كانت فيما يبدو بيوتا لأهل المدينة.
ساعدنا وجود منى في التواصل مع أهل المدينة من دون اللجوء للغة الإنكليزية التي لا يتقنها معظمهم، قابلنا مصادفة رئيس البلدية السابق. دعانا إلى كأس شاي أمام محله التجاري، واستمع إلى رغبة ربيعة في الكتابة عن المدينة التي تستحق الالتفات، وأبدى حماسة في التعاون معها في توفير المصادر التاريخية وتسهيل لقائها بالمسنّين لسرد حكاياتهم وعلاقتهم بالمكان. في مساء اليوم التالي، التقينا إيرول بيه، جار ربيعة الثمانيني الوسيم. كان في الصباح ينشر الغسيل على شرفة بيته في الدور الأسفل، قبل أن ينهمك في تنظيف الحديقة وسقي الورود. قال إن زوجته مريضة لا تستطيع الحركة؛ وهو وحده من يعتني بشؤون المنزل. حدّثنا عن تاريخ أماسرا التي كانت تُدعى في الأصل أماسترس، نسبة إلى ابنه أخ الملك الفارسي، داريوس الثالث، الذي هزم على يد الإسكندر المقدوني. وقد تأسّست، في القرن السادس قبل الميلاد في عهد الدولة البيزنطية، وتلقب بعروس البحر الأسود، لما تتميز به من طبيعة خلابة وهدوء كبير بسبب قلة عدد سكانها الذي لا يتجاوز ستة آلاف نسمة. زرنا مواقع تاريخية مهمة، المتحف الذي يحتوي على آثار تعود إلى حضارات مختلفة، وكذلك القلعة التاريخية والكنائس الأثرية والمساجد العثمانية والقلاع البيزنطية. تقول الحكاية إن محمد الفاتح حين وصل إليها فاتحا، هتف: ما هذه الجنة؟ ما هذه الجنة؟ .. وأرسل إلى حاكمها البيزنطي، قائلا: لا أريد أن أضرّ بهذا الجمال، وتم تسليم مفتاح المدينة له من دون حرب.
أربعة أيام من العمر، قضيناها في ربوع المدينة الوادعة الساحرة. كانت بمثابة الدواء لكل قلبٍ عليل. ورغم أسفاري الكثيرة في بقاع الدنيا، ستظل إقامتي في أماسرا تجربة استثنائية عصية على الوصف، من فرط احتشاد الدهشة في تفاصيلها.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.