أغنيات أم وصلات ردْح؟
عندما نتأمّل قليلا في كلمات الأغنيات الحديثة التي تنتشر بين ليلة وضحاها على مساحة الوطن العربي، وتحقّق لأصحابها الثروات الباهظة السريعة، وتحصد ملايين المشاهدات، وتُعاد تأديتها على مواقع "تيك توك" بمقاطع كوميدية، محقّقة "الترند" المُرتجى، حيث تتدفّق الأرباح الطائلة بلا حساب، عندما نتأمل في هذا، سوف نصل بسهولة إلى أن الخراب قد أحاق بنا كليا، وأجهز على كل أمل بنهضة ثقافية فنية جمالية في مجتمعاتنا المأسوف على مصيرها غير المشرق.
نلمس ذلك بشكلٍ جلي (وباستثناءات قليلة جدا) من حيث تردّي المستوى الفني إلى درك غير مسبوق لتنساق الجموع المغيّبة كالقطيع، مفتونة ومصفقة للضحالة والإسفاف والبذاءة والابتذال والخشونة، باعتبارها حالات فنية تثير الانبهار. وقد باتت ثيمات وحيدة لهذا النوع من الغناء واسع الانتشار المحمول على ألحان خفيفة راقصة وتوزيع موسيقي جاذب، تجعلنا، رغم رفضنا المبدئي لمضامينها، نتراقص على ألحانها في الأعراس والمناسبات السعيدة. وتلاقي الحفلات مرتفعة أسعار التذاكر التي يقيمها صنّاع هذه الأغنيات بالغة الرداءة إقبالا واسعا، لا سيما من فئة الشباب، غير المدرك خطورة غياب المفاهيم النبيلة التي تحتفل بالحبّ والجمال والشاعرية والرومانسية والعلاقات الإنسانية السوية، حيث تشوّه معظم كلمات هذه الأغنيات كل ما هو جميل في العلاقة بين المرأة والرجل، مستخدمة ألفاظا عدوانية، تعلي من الفردانية والأنانية وافتعال صراع الديكة والتحدّي والمكابرة وقلّة احترام الآخر والحطّ من شأنه، فتهبط إلى الردح والسباب، من باب التظارف والدعابة السمجة، وتوهّم خفّة الظل، ما يعزّز في نفس المتلقي روح العدائية والاستخفاف وقلة القيمة، ويجعل التحسّر على ماضٍ عربي غنائي ثري راق رفيع المستوى أمرا مشروعا. وذلك لا يعني بالضرورة الرغبة المجانية من دون مبرّرات في التشبث بالماضي من باب التحجّر الفكري والهجاء للجيل الجديد. لأنه، في النهاية، مجرّد ضحية للجهل والانسياق الأعمى وراء صرعات غنائية فظّة شاذّة كفيلة بتشويه الذائقة الجمعية، وتحطيم مقايس الإبداع الحقيقي من حيث الكلمة واللحن والصوت، فبات معظم أبناء هذا الجيل وبناته رافضا بالمطلق القديم متمرّدا عليه، من دون مقدرةٍ على اجتراح بدائل مقنعة جماليا لكل صاحب ذائقة.
وإذا ما أجرينا مقارنة بسيطة بين ثيمات القديم والجديد نجد البون شاسعا. كانت أم كلثوم تتغنّى بالحبّ قيمة أساسية مطلقة في الوجود، وكذلك فعل عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وفيروز ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وغيرهم الكثير، وإنْ كان يُؤخذ على كلمات أغنيات القديم الانسحاق الكامل أمام الحبيب والرغبة في نيل رضاه وإنكار الذات والتضحية والصبر على قسوته بطريقة تنال من الكرامة أحيانا، كما غنّت الستّ "عزّة جمالك فين/ من غير ذليل يهواك"، وحين ردّد عبد الحليم "مشيت على الأشواك/ وجيت لأحبابك/ لا عرفوا إيه ودّاك/ ولا عرفوا إيه جاك"، وكما ورد في الموروث الغنائي الأردني "حبيبي لو ضربني بشبريّته/ لامسح الدم وامشي ورا خطوته"، وغيرها أغنيات كثيرة تتوق إلى وصل الحبيب مهما كان الثمن، لتأتي، في زمننا الأغبر هذا، الصورة النقيضة الفجّة، حين تغني مطربة مغمورة أغنية "مخصماك" التي "كسّرت الدنيا" كما يُقال في الدارجة المصرية، حيث تبدأ الأغنية بوصلة ردح "إنت لو كنت بتهتمّ/ إنت لو كان عندك دمّ/ إنت لو بتحسّ يا عمّ/ مخصماك/ إبعد عني أنا مش طايقاك/ ما تورّنيش وشّك تاني". ويطلع علينا أحمد سعد بأغنيةٍ لا تقلّ شعبية وانتشارا، حيث يخاطب الحبيب، قائلا "شوف إنت عامل إيه/ وأنا عامل إيه/ شوف إنت قد إيه وأنا قد إيه/ إنت اللي عملته في حياتك عملته أنا في يومين/ وسّع وسّع". أما جديد "إبداعات" حسن شاكوش ذائع الصيت فأغنية "إنت معفنة" (!)، أي والله، هكذا بالحرف الواحد، وقِس عليها الكثير من قائمة مقزّزة تطول إلى حدٍّ يقصّر العمر.
وعلى رأي إخوتنا المغاربة، الله غالب.