أصوات إسرائيلية ضد قهر الوعي حيال الماضي
تشي نصوص يكتبها أدباء وصحافيون في إسرائيل هذه الأيام بأن المجتمع الإسرائيلي يعيش، في الوقت الحالي، على خلفية "طوفان الأقصى" والحرب على قطاع غزّة، أزمة وجودية وهوياتية عميقة، وربما الأهم من ذلك أن هذه الأزمة في حاجة ماسّة إلى حلّ جذريّ لم يعد ممكناً تأجيلُه إلى ما لا نهاية.
وللنمذجة على أحدث تلك النصوص، بما تتيحه هذه المساحة، أشير إلى ما كتبه الأديب إشكول نيفو، وهو حفيد رئيس الحكومة الإسرائيلية الثالث ليفي إشكول، في صحيفة يديعوت أحرونوت أمس (28/5/2024)، حيث ذكر أنه تلقى رسالة من صديق عبر "واتساب" جاء فيها: القصة التي حكيناها لأنفسنا عن حياتنا في هذا المكان تحطّمت أشلاء يا إشكول. فهلّا تكرّمت علينا باختراع قصة جديدة؟، فردّ عليه قائلًا: لا أعرف بعد ما هي القصة الجديدة. أكثر من ذلك لا أعرف ما هو رأيي حيال مواضيع متنوّعة كان لي رأي حاسم فيها قبل 7 أكتوبر (2023). الواقع تغيّر من النقيض إلى النقيض منذ ذلك التاريخ. وما زال في طوْر التغيير، يوماً بعد يوم. سيمرّ وقت طويل، حتى نعرف ما هو رأينا. وهذا جيّد أن نتيح لأنفسنا مثل هذا الوقت.
وتابع: مع ذلك، ما الذي أعرفه حقًّا؟ إذا كان ثمّة شيء واحد يمكن أن نتعلّمه من أحداث "يوم السبت الأسود" فهو أنه حان وقت الكفّ عن قهر الوعي، والكفّ عن إدمان الوهم أن بالإمكان "إدارة الصراع" (مع الفلسطينيين) أو "تقليص الصراع". هذا الصراع يجب حلّه. وربما تكمن في الأزمة الحالية فرصة للتفكير المغاير في كل ما يتعلّق باليوم التالي. من دون ذلك، لن ننجح في التخلص من دائرة الدم التي نجد أنفسنا عالقين فيها. ولن تكون هناك نهاية سعيدة لقصّتنا هنا. والأكيد أنه من دون تفكير مغاير لن تكون هناك بداية جديدة.
لا يشير نيفو فيما إذا كان الكفّ عن قهر الوعي يشمل الدعوة إلى بداية وعي جديد حيال الماضي الذي لم يمضِ، كون مشكلة ما يصفه بأنه "صراع" تتطلّب حلًّا أكثر شمولاً والأهم أعمق استبطاناً مما هو ظاهر في نصّه أعلاه. وهو ما يقتضي العودة إلى البدايات عند أي تفكير في بداية جديدة مغايرة. وصادفنا في أدبيّات إسرائيلية كثيرة، سيما بعد اتفاقيات أوسلو منذ أكثر من ثلاثة عقود، مقاربات راسخة تنطلق من قاعدة عامة تذهب إلى أن بلوغ السلام في منطقة الشرق الأوسط يمكن أن يتأتّى إذا ما رنا القادة بأبصارهم نحو المستقبل، وأشاحوا بها عن الماضي، مرّة واحدة وأخيرة. ولا يحتاج المرء إلى ذكاء خارق كي يستريب بهذه المقاربة، لأن غايتها إعفاء إسرائيل من المسؤولية عما اقترفته في هذا الماضي، أكثر من رغبتها في حلم بناء مستقبلٍ يكون لمصلحة كل الأطراف.
ومثل هذا الوعي الأعمق استبطاناً غير منتفٍ لدى إسرائيليين آخرين، منهم مثلًا ألون عيدان، أحد كتاب الرأي في صحيفة هآرتس، الذي كتب قبل نيفو أن الخوف الحقيقي، الأوليّ، الذي يتحاشى الإسرائيليون الكلام عنه هو خوفهم مما اقترفوه في الماضي، وكان مقزّزاً من الناحية الأخلاقية. وفي رأيه، على الرغم من المحرقة النازية التي مثّلت ذروة الحاجة إلى بناء ملجأ آمن للشعب اليهودي، أُقيم مشروعُ دولة إسرائيل هو أيضاً على حساب شعب آخر. وبمفهوم معيّن، هذا الرعب الإسرائيلي غير مرتبط بالجرائم الأخلاقية التي كانت إقامة الدولة مرهونة باقترافها إنما بإنكارها.
واضح من النموذجين، وثمّة نماذج أخرى مثلهما، وجود سعي للدفع نحو تكريس خطاب عام يقوم على مواجهة السردية الصهيونية بشأن مشروع إقامة الدولة عام 1948، وبموازاة ذلك محاولة تعرية كل ما يتماشى مع أراجيف هذه السردية، التي سبق لأحد الشعراء الإسرائيليين أن وصف التخلّي عنها بأنه "مرضٌ روحيّ خطر"، لأن في هذا التخلّي استكناهاً لجوهر ذلك المشروع غير الأخلاقي.