أسئلة الإنسان واندهاشاته
هل كل ما كتب وما سوف يُكتب لا يخرج عن ذلك الحيز التأملي والحيرة في الكون ابتغاء الخروج بأي تصوّر عن الحياة في شكل لوحة، أو نغمة موسيقية، أو قصة، أو قصيدة، أو خرّافية، أو رواية، أو عمل مسرحي، أو فيلم سينمائي، أو بحث علمي. كلها تعبر عن ذلك السؤال الذي لا يشفي غليلاً، بحثاً عن فرح إيجاد المعنى أو تلامسه أو غرور الإمساك به في ذلك الكون الذي ما زال يحيّرنا باندهاشاته وفتوحاته أيضاً بعد تعب الأسئلة. وتأتي أسئلة أخرى أكثر حيرةً من الأولى حول الحروب وغايتها وتبريرات الزعماء والأحزاب، وصناعات الحروب بأسلحتها الفتّاكة، سواء كانت من أجل تعزيز سلطة اقتربت من الزوال أو من أجل حبٍّ إمبراطوري مستحيل أو سبي أو فاقة أو كبحث عن زعامة متوهّمة تسويقا للإمبراطورية أو العائلة يقف الكهنة وراء صناعة أسبابها ومبرّراتها ودفع الجموع دفعاً وراء تلك الأوهام المصنوعة بحرفية، وقد تدخل القداسة على خط الحروب وفي القلب من الصفوف، كي يكون الدم طاهراً، وتستمرّ الصناعة قروناً فخورة بالقتل من الطرفين.
دائماً هناك في الكون وخلف الأفق للإنسان غمامة، غمامة تحرّك خطاياه وأطماعه، غمامة تخايله، كي يجعل من الدم مسوّغاً لأختام مُلكه المتوهم، غمامة مثل تلك أراها الآن تتشكّل على مهلٍ، ثم تذوب أو ترحل، غمامة مثل حربٍ ما بين بلديْن، أو مثل تلك المرأة التي هجرت بلا سبب، غمامة مثل ذلك الجبل الذي تظنّ أنه يرحل في الليل بهمومه عنّا ومنّا رغم أنك تراه ثابتا، غمامة تمشي من بعيد في الصحراء، مثل ذلك الجمل البعيد الذي يمشي هناك تائهاً بعد ما كره صاحبُه وشرّد، بعد ما احتمل كثيراً من أذاه وصبر.
إلى متى يصبر الإنسان ويتأمل حاله مندهشاً، حتى وهو يبحث عن رزقه، أو سهره، أو نجمة أو هلال، أو عيد، أو محصول، أو محبّة لا تطاوع قلبه أبداً.
هذا الإنسان الذي يعرف جيداً أنه عابر مثل أي غمامةٍ سوف ترحل، لأن الحركة مكتوبة عليها، مثل تلك الشمس هي الأخرى، والتي ترحل دائماً، والقمر كذلك الذي يكتمل ويختفي، شمسٌ هناك ينتظرها غيرُنا بعد ما رحلت عنّا، شمسٌ يحتاجها المرضى هناك، وتنتظرها العصافير وهي في برودة أعشاشها ليلاً، شمسٌ لغيرنا ولن تكون معنا ومن أجلنا طوال النهار وحدنا، شمسٌ تسعد غيرنا كما أسعدتنا، كي تنبُت ورود غيرنا وأزهارهم، وتدخل عنابر مستشفيات غيرنا وسجون غيرنا وتحت أجنحة حمام غير حمامنا، شمس مثل التي كانت، هنا، معنا وودّعتنا من دقيقة.
شمس كانت هنا تطبطب على أحزان نهارنا، وراحت الآن إلى أحزان غيرنا ببساطة، كما أن هذا البحر كله ليس لنا وحدنا، فهناك آخرون وراءه غيرنا، حمر وصفر وسود وبيض، ولهم أيضاً انتظاراتهم واندهاشاتهم أمام قمرهم وشمسهم، ولهم مرضاهم وغرفهم وصلواتهم ووداعاتهم ودموعهم وأحزانهم أيضاً، لهم الحقّ في تلك الشمس وفي النجوم وفي القمر والأزهار مثلنا، فما هذا الغرور الذي نبت للأسف، رغم كل الفلسفات، تحت جلودنا؟
شمسٌ ذاهبة إلى أحواض نعناع غيرنا وإلى أشجار زيتون وليمون غيرنا، وإلى أعناب غيرنا، وإلى صوامع أقماح غيرنا، وإلى بساتين غيرنا، وإلى ثعابين غيرنا.
شمس لذلك العائد من غربة بلا سبب، غربة عمل، أو غربة سجن، أو غربة اعتقال، أو غربة جُرح، أو غربة بحثٍ عن رزقٍ تعثّر، أو رزق انعدم، أو غربة ضياع وطن كامل، أو ضياع أولاد وضياع بيت.
هذه الشمس للجميع كما الدم، كما الميلاد، كما البصر للعين، كما الملحُ للبحر، كما السكّر في العنب، شمسٌ هناك تدخل في روح الكون ونسيجه، حتى في عود الغاب الذي يلمسه ذلك الفلاح أمام حقله وينفخ فيه، فيكون نغماً وأغنيةً يغنّيها حسن أو حسين أو نعناعة، وتصير سامراً للناس بجوار الأحجار والبوص والقصب والحوائط القديمة.
الشمس لغيرنا والطين أيضا لغيرنا والعصافير كذلك، وكذلك الأسباب.
ننحتُ كلنا من قديم الزمان في ذلك الكون، ونحاول أن نجعله جميلاً لمن سوف يأتي بعدنا، كما يقال، نبحث دائما كمساكين عن المعنى، والمعنى دائما يراوغ، علّنا نحن الذين نراوغ المعنى، كي نطمسه، أو نغرقه في البحر، أو نقتله مع القتلى. وفي الصباح، نشيّد دور العبادة على أشيك ما تكون ونعلق بها الثرّيات، كي تكون شاهدة على نسيان الدم، وعلى حسن النظافة واللياقة والأدب.
ثعالب في العنب تتوهّم صالح الأعمال بجوار أكتاف الكهنة.